يبدو أن ليبيا ستكون البلد الذى يكتب السطر الأخير فى الإجابة عن سؤال مستقبل ما يسمى بمشروع الإسلام السياسى فى منطقة الشرق الأوسط، بعد أن بادرت جارتها الشرقية مصر بكتابة السطور الأولى مع اندلاع ثورة الثلاثين من يونيو من عام 2013، التى أسقطت ونهائيًا أحلام جماعة الإخوان الإرهابية منبت المشروع فى الحكم.
صحيح أن مصر كانت البلد الذى شهد ولادة ونشأة الجماعة برعاية انجليزية، والدولة التى أسقطت حكم المرشد، وقضت على أى فرصة لعودة الجماعة للعمل السياسى أو الدعوى علاوة على أحلامها المريضة بأستاذية العالم، لكن جارتها الغربية ليبيا والتى تمثل عمقها الاستراتيجى ستكون المقبرة التى تدفن فيها أحلام الجماعة ورعاتها الإنجليز.
«الفوضى الخلاقة» كانت عنوانًا لاستراتيجية تقسيم المنطقة وإغراقها فى آتون حرب طائفية بين المسلمين والمسيحيين تارة، وبين المذاهب الإسلامية المختلفة السنة والشيعة والصوفيين والسلفيين تارة أخرى، وقد شهدت مصر بوادر هذه الحروب والفتن لولا ثورة الـ30 من يونيو، وكانت سوريا واليمن والعراق مسارح مفتوحة لها، واللافت أن القاسم المشترك لتلك الاستراتيجية لم يكن فقط واضعو الاستراتيجية فى الولايات المتحدة وبريطانيا، وبعض العواصم الأوروبية، حيث كانت قطر وتركيا قواسم مشتركة قامت بدعم وتمويل وتقديم جميع التسهيلات الممكنة لتأجيج هذا الصراع فى البلدان العربية.
وها هما يسجلان حضورًا بارزًا فى ليبيا حيث يمول الريال القطرى السفن التركية بالأسلحة والذخائر والعناصر الإرهابية، لتتوجه نحو ميناء مصراتة الليبى بحماية إيطالية ورعاية وتنسيق بريطاني.
استطاعت الدولة المصرية احتواء وتحييد كلٍ من حركة حماس ونظام الرئيس السودانى المخلوع عمر البشير المنتميين لتنظيم جماعة الإخوان الإرهابى عبر أدوات السياسة والدبلوماسية برغم جرائم الأولى، ومحاولات الأخير المناورة مع النظامين القطري والتركي، لكن الإدارة المصرية أدركت أن ليبيا شئ مختلف وسارعت إلى تأييد ودعم المشير خليفة حفتر عندما ذهب إلى تأسيس الجيش الوطنى الليبى وإطلاق عملية الكرامة لتحرير كامل التراب الليبى من الجماعات الإرهابية.
كانت الدولة المصرية الداعم الرئيسى للجيش الوطنى الليبى وأول من منحه شرعية إقليمية وسعت إلى إكسابه شرعية دولية، وهو ما تجسد أمامنا فى اعتراف الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بحيوية دور الجيش الوطنى الليبى فى محاربة الإرهاب وتأمين الموارد النفطية، بل إن ترامب ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بإعطاء عملية تحرير طرابلس مشروعية سياسية ذلك أنها ستقود إلى عملية سياسية من شأنها استقرار ليبيا وبنائها دولة مدنية ديمقراطية.
هذا المقصد يتضح جليًا فى بيان البيت الأبيض حول المكالمة الهاتفية التى أجراها ترامب مع المشير حفتر من خلال أمرين، الأول حرص البيان على توضيح أن الرئيس الأمريكى هو من قام بإجراء المحادثة والثانى حديث البيان عن تناول ترامب وحفتر رؤية مشتركة لمستقبل ليبيا السياسى فى مرحلة ما بعد انتهاء عملية التحرير.
الدولة المصرية وكما نجحت فى إقناع الرئيس الأمريكى الجمهورى دونالد ترامب بفساد الاستراتيجية التى كان يتبناها سلفه الديمقراطى باراك أوباما والتى تقوم على دعم ما تسمى بجماعات الإسلام السياسى وتمكينها من الوصول إلى الحكم بالنسبة لمصر نجحت أيضًا فى إقناعه بمشروعية ما يقوم به الجيش الوطنى الليبى وعدم جدوى أى اتفاق سياسى يتم إبرامه فى ليبيا يكون تحالف جماعة الإخوان وتنظيم القاعدة طرفًا فيه.
بعد سقوط النظام الإخوانى فى السودان وسعى السلطات الانتقالية فى الجزائر إلى تفادى سقوط البلاد فى دوامات فوضى تسعى إليها الأحزاب والجماعات المحسوبة على التنظيم الدولى لجماعة الإخوان الإرهابية، إضافة إلى وعى الشعب الجزائرى بخطورة هذا التيار سيقود انتصار المشير خليفة حفتر فى طرابلس أحلام الإسلاميين فى كل بلدان المغرب العربي، فقد استثمرت قطر وتركيا كل ما يمكن أن تستثمره فى حكومة فائز السراج تحت رعاية بريطانيا وإيطاليا اللتين كانتا تشاهدان السفن التركية وهى تنقل الأسلحة والعناصر الإرهابية إلى قلب ليبيا.
الجزائر التى أجرت قبل أيام مناورة بالذخيرة الحية على حدودها مع ليبيا فى رسالة تحذيرية واضحة لفلول العناصر الإرهابية الهاربة من وطأة رصاص الجيش الوطنى الليبي، ستجد أن التعامل مع المشير حفتر الأفضل والأجدى لها كونه يمثل السلطة العسكرية الموحدة والقادرة على بسط سيطرتها على مختلف ربوع ليبيا علاوة على أنه من سيقوم بالدور السياسى الرئيسى فى المرحلة الانتقالية.
تونس التى تخشى من تسلل الإرهابيين عبر حدودها الممتدة إلى 500 كيلو متر مع جارتها ليبيا سترى أن من الحكمة بناء علاقة سياسية قوية مع الجانب الذى استطاع بناء جيش وطنى يضم كل شرائح وفئات وقبائل المجتمع الليبى على عكس المجلس الرئاسى الذى خضع رئيسه طوال سنوات لأوامر وتعليمات قادة الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية.
وعلى الصعيد الدولى أعلن إنزو ميلانيزى وزير خارجية إيطاليا التى كانت تتبنى مواقف متشددة تجاه المشير حفتر، أن اعتراف الرئيس الأمريكى بدور الجيش الوطنى الليبى أمر شرعى، وأكد توافقه مع نظيره الفرنسى تجاه ما يجرى فى ليبيا رغم الانتقادات التى كانت توجهها روما لسياسة باريس قبل بيان البيت الأبيض حول محادثة ترامب مع القائد العام للجيش الوطنى الليبي.
التحول فى المواقف الدولية والإقليمية ستكون له انعكاساته السلبية على تحركات قطر وتركيا، وقد تبادر بعض الأطراف إلى اتهامهما بدعم الإرهاب حال استمرارهما فى تمويل الميليشيات المسلحة ونقل الجماعات الإرهابية من سوريا إلى ليبيا، وقد يسمح هذا التحول فى مرحلة ما للجيش الوطنى الليبى باتخاذ إجراءات ضد السفن والطائرات التركية والقطرية بموجب قواعد القانون الدولى التى تكفل للدول حماية أراضيها وأمنها القومي، لاسيما وأن المتحدث الرسمى باسم الجيش الوطنى الليبى اللواء أحمد المسمارى كان قد بعث برسائل تحذيرية مبطنة إلى تركيا عندما أشار إلى تحرك سفنها من ميناء أزمير إلى ميناء مصراتة محملة بالأسلحة والعناصر الإرهابية.
طرابلس تمثل المعقل الأخير لما يسمى بمشروع الإسلام السياسي من حيث سلطة الأمر الواقع السياسية والتواجد العسكرى المسلح، وانتصار الجيش الوطنى الليبى فى معركة تحرير طرابلس قد يعنى نهاية هذا المشروع فى الشرق الأوسط برمته، ولن تبقى له سوى بعض الجيوب التى ليس بوسعها سوى شن الهجمات الإرهابية.