منذ أن طرح طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر»، وهو كتاب لو كان قد تم تنفيذ ما جاء به فى نهاية الأربعينيات لتغير حال مصر تماما، إذ كان طه حسين ينظر للتعليم على أنه «كالماء والهواء» والمحرك الأساسى للثقافة، أو أنه جوهر التغيير الثقافى، ومع اتفاقى التام معه لكن هناك تطورات حدثت فى السنوات السبعين الماضية غيرت كثيرا من المفاهيم المتعلقة بالثقافة، إذ لا يمكن أن ننسى تجربة مهاتير محمد فى ماليزيا الذى نهج طريق طه حسين، وكذلك تجربة الصين منذ عام ١٩٤٩، وكذلك كثير من تجارب الشعوب التى انتقلت من مصاف الدول النامية إلى الدول المتقدمة لأنها آمنت بالتعليم كوسيلة وحيدة لهذه النقلة الثقافية والحضارية. ليس هذا فقط بل هناك مشكلات تتعلق بالمثقف ذاته، إذ لا يعلم الكثيرون أن دخول العصر الصناعى قد مهد لظهور مثقف من نوع جديد، إذ إنه منذ مائة عام أشارت فيرجينيا وولف إليه بجملة قالتها «العالم يتغير»، حيث إن التحولات الكبرى منذ هذا التاريخ أنهت تمامًا على المثقف التقليدى الذى ما زلنا نحتفظ به لدينا، المثقف فى العالم العربى هو ابن العصر الزراعى والبداوة، مهما فعلنا من إرسال بعثات تعليمية، وفنية وثقافية وأساتذة جامعات للخارج فلن يكون سد الفجوة المعرفية إلا بإنتاج معرفة رصينة داخل المجتمع ذاته لتتوقف عن استيرادها، وإنفاق المليارات عليها، ولإنتاج هذه المعرفة لا بد من شروط، ولكى تتغير ثقافة المجتمع فلا بد أن تتغلغل تلك المعرفة فى عروقه، وإلا سيحدث ما نراه الآن من تطرف وإرهاب، وتوفير بيئة خصبة للأفكار اليمينية، والأفكار الهدامة. من هنا يأتى أهمية الطرح الذى يقدمه دكتور زين عبدالهادى فى كتابه «المستقبل الشائك.. تحديات الثقافة والمعرفة فى الدول النامية» والصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. ويتابع فيه بقوله: إن ما نراه فى العالم من تصلب الثقافة وتوافر الأموال يؤدى لتلك الحالة من استيراد المعرفة، نزيف من الموارد الضخمة، دون أن تعمل المجتمعات الإنسانية بشكل عالمى توفير بيئة علمية ومعرفية قادرة على الإبداع والخيال. وهو ما قد يحتاج لدراسات سيوسيو معرفية، وبوليتك معرفية عميقة للغاية، يمكن معها توفير الحلول لكل ما تعانى منه المجتمعات المتخلفة فى العالم. والثقافة هى مظلة لكل عنصر متداخل معها، فهى مظلة للفن والأدب والعلم والفلسفة والعقائد أيضا، وكل عنصر من هذه العناصر يمكن أن نطلق علية معرفة بشكل أو بآخر. فإذا كانت العادات والتقاليد والمفاهيم السائدة فى المجتمع منفتحة كانت المعرفة فيها منطلقة ومستمرة ومتواترة ومنتظمة، وإذا كانت العادات والتقاليد والمفاهيم منغلقة كانت المعرفة فيها معدومة. أو على الأكثر سطحية عائمة، وعشوائية متوترة.
لا يمكن إذن للمعرفة أن تنمو فى ظل بيئة غير صالحة، لأن هذه البيئة فى حد ذاتها ستكون عائقا عميقا وكئودا لأى معرفة يمكن أن تنشأ، لكنها ستسمح فقط، لقشور معرفية لا تساعد المجتمع على النهوض، بل ترسخ مزيدا من البؤس والظلامية وعدم الشفافية، ولأغراض تتعلق بقيادات المجتمع أو المجتمعات الناهضة لها.
إن إشكالية المعرفة والثقافة هما إشكاليتان ذات أعراض متلازمة ومتسقة مع ذاتها سواء كانت تلك الذات صحيحة أو مشوهة. دعونا نلقى هذا السؤال: كيف سيكتب مؤرخو هذا العصر تاريخه، فى ظل ملايين التفاصيل والحكايات والحوادث التى تكتب كل يوم على شبكة الإنترنت! ألن تصبح كتابة تاريخ القرن العشرين والواحد والعشرين عملا كئودا للمؤرخين أنفسهم، فكل الناس يكتبون الآن التاريخ والحوادث عبر الإنترنت، ماذا سيفعل المؤرخون؟.
إن التاريخ الإنسانى كله كى يوثق كان لا بد من الانتقال من الشفاهية إلى التاريخ المكتوب والمدون، ثم إلى التاريخ الشبكى فى عصر المعرفة، التاريخ الذى يكتبه كل البشر، وهو ما سيشكل عقبة حقيقية أمام المؤرخين فى إلمامهم بالتفاصيل التاريخية والمعروفة المليونية التى ستأتى لهم من كل صوب الآن. كانت مشكلة التاريخ الشفاهى والذى صبغ المعرفة الإنسانية فى طفولتها واستمر ذلك إلى وقت قريب، هو أنه تاريخ غير محدد المصدر ولا يمكن التعويل عليه كثيرا، لكنه كان المصدر الوحيد، لذلك اختلطت الحقائق بالأساطير، كان تقدم المعرفة يعنى التخلص من أوهام حاصرت العقل الطفولى الإنسانى فى بداياته الأولى. وهذا ما دعا كثيرا من العلماء إلى القول بأن نتائج التاريخ ليست نهائية على الإطلاق، وأن كثيرا من تلك النتائج والحقائق تحتمل الشك، وبأن كثيرا منها هو مجرد استنتاجات مبنية على ما توصلت إليه أيديهم من أدلة فى معظمها ليست كاملة، حتى التاريخ الذى يسجل، يتدخل فيه كثير من العوامل التى يفقد معها التاريخ أحيانا رونقه العلمي، ولذلك فالجميع يتحدث على ما وقعت أيديهم عليه وعلى ما يظنون أنه حقيقة.
وللحديث بقية