رغم ما يوحى به اللون الأصفر من حيوية وتوهج، إلا أن من دلالاته الأدبية أيضًا ما تحضر فى وصف زهور المقابر، أو المجتمعية ما يغلب على لون زهور باقات الجنائز، أو فى أنثربولوجيا الشعوب، فالعلم الأصفر على سارية السفينة هو إشاعة خبر تفشى وباء مرض على ركاب متنها، العرض المسرحى «أيام صفراء» محمل بالفقد وفجيعة الموت والفناء، والذى يطرح سردية من سرديات الحروب الأهلية، يحرك أذهاننا وأسئلتنا ومشاعرنا التى مما لا شك فيه تقارب وتلقى بظلالها فى أوضاع عايشناها كجيل، ومازالت تعيشها منطقتنا العربية، أما بلاد تتلظى بنيرانها، أو بلاد تمتد إليها ارتدادات تلك الحروب الداخلية، تداعت أحوال بلدى ومدينتى وما تعيشه اليوم وعاشته عقب متغير عسير، ومشاهد وحوارات العرض تشد بصرى وتدق بسمعي!.
الكاتبة دانييلا باتينيش عاشت جزءًا من حياتها فى البوسنة والهرسك وتفهمت وهى تذرع شوارعها يوميات الاحتراب تاريخًا مسكوتًا عنه داخل يوغسلافيا، وفى نصها الذى ترجمته نيفين فايق وأعده دراميًا عمر توفيق، ما يشى بأن الحرب بين مكونات متعددة فى الوطن الواحد ظلت متعايشة ليست وليدة لحظتها، بل هى تراكمات لصراعات نائمة تجد مناخًا يغذيها فتعلن عن نفسها وتتفاقم وتنفجر، صراعات الهوية، والتمييز العرقى والجهوى، حين تعلو حد التطرف والمبالغة تطيح بكل قيم القبول والتعايش.
المرأة البطلة فى المسرحية تدفع ثمن هذا الصدع بموت مُفجع، الزوجة هى فى قاعدة مثلث العلاقة مع ضلعى الشقيق والزوج، كلاهما ثقل تنوء بحمله، من تعجز عن كف صوت ومفاعيل الفرقة والتقاتل الضاج بروحيهما، نشهد تصاعدا فى حالة التوتر والعداء المشحون والذى يشرعه الشقيق مبتدأه مباراة كرة القدم بين فريقيهما، ثم يتبعه وإن قاوم ذلك الزوج عقب تشاركهما حربًا كان عدوهما واحدًا وأهدافهما واحدة فى التخلص من ربقته وظلمه، لكنهما يعودان وتشب نار القطيعة بينهما ويتفجر مناخ الصراع الذى يستعيد جذوره البعيدة التى لم تندمل جروحها، لا يكسره غير الملاك الأنثى التى تقطع بإيقاعها الراقص وبثوبها الأبيض وبغنائها نحيب الزوجة، الصراع هنا الذى يأسر أنفاسنا على ثلاث مستويات، فى نفس الزوجة وهى بين فكى رحى تسحقها: زوج وشقيق، وبين الشقيق والزوج كلاهما يتحين قتل الآخر ويضع مبرراته، والصراع الذى يدور فى الخارج (الوطن)، ويصلنا صداه معبرا عنه فى ساحة الاقتتال، بأزيز الرصاص، والإظلام، الجدار الفاصل والامتداد الطويل لمعبر جبهة حرب، والأجواء القاتمة المبثوثة عبر بانوراما ومجمل سينوغرافيا الركح التى أدارها فادى فوكيه، ولعل الرؤية الإخراجية التجريدية للمخرج أشرف سند، وافقت تأويل النص، ما يمكن تسميته المعنى التأويلى للنص من خلال المعنى البصري، فقد شكلت الكتل الخشبية والحبال التى ظهرت كخامة باثة لتحقق التأويل، تكوينات متحركة دائرية، وشبه منحرفة، يلعب بهما وعليهما، الزوجة، والشقيق، والزوج، من أجل توكيد دوران الصراع واحتدامه، الطاولة، والكرسى المزدوج، والصالون، وأن تم توظيفهما أيضا فى أيقاظ مشاعر حميمية عبر حوار الاشتياق بين الزوج والزوجة، والتقاطة مستعيدة لما يجمع الزوجة وشقيقها من أواصر لشقاوة طفولة غابت مع حمل الشقيق لمشاعر الضغينة تجاه زوج شقيقته فقد تحول إلى عدو.
تيمة الملاك الأبيض الحارس، فى ملصق العرض ترد تحت تسمية «ملاك الموت»، والذى تقف عنده «أيام صفراء» فى مشهدها الأخير، لعلها تُحيلنا إلى منشد إنسانى الحرية والأمان ووقف نزيف الحرب، وإلى أن الحياة قد تقلب صفحة بؤسها بعد أن تدفع البشرية أثمانا غالية، الملاك من تضع غطاءها على جثمان الزوجة التى مُنيت بكل الخسارات وبنهاية يقتلها زوجها، وقد نفت جنونا ظل مكبوتا فى لا وعيه، وإن لم تشبعها الكتابة الدرامية بما يعلل تواجدها قاطعة أحداث المشهد تلو الآخر، وكاسرة إيقاع الصراع، لوهلة بدت معبرة عما يمور بدواخل الزوجة أو كأنها صنوها، بخفة جسدها النابض رقصًا، وبتناسق أدائه مدلول حياة محتملة ومتطلع إليها، فهل تقصد عمر توفيق أن يتمركز وفق نص دانييلا حول معضلة الهوية وصراعاتها الدامية، ويترك الملاك طارحًا سؤال الوجود، الموت والحياة.