الانقلاب على الدولة المدنية، وعسكرة الدولة الليبية، كانا أول الاتهامات التى أطلقها فائز السراج رئيس المجلس الرئاسى الليبى، ضد المشير خليفة حفتر بعد تحرك قوات الجيش الوطنى الليبى نحو العاصمة طرابلس لتحريرها من الإرهاب.
السراج حاول من خلال تلك الاتهامات إعطاء انطباع، بأن ما تسمى بالثورة الليبية قد نجحت فى القضاء على نظام العقيد معمر القذافى وإقامة دولة مدنية داخل مدينة طرابلس، وأن القائد العام للقوات المسلحة الليبية بغزوة العاصمة بحسب تعبيره يحاول الانقلاب على هذه الدولة وعسكرتها على غرار ما فعل فى مدينة بنغازى الواقعة فى شرق البلاد.
بعض الحكومات الغربية المؤيدة للسراج، وعلى رأسها بريطانيا وإيطاليا كررت ذات الاتهامات، متجاهلة عن عمد ما آلت إليه الأوضاع فى العاصمة الليبية التى باتت من الناحية العملية مقسمة إلى مناطق تحكمها الميليشيات والعصابات الاجرامية والجماعات الإرهابية بقوة السلاح.
اتهام المشير خليفة حفتر بالانقلاب على الدولة المدنية ليس سوى محاولة فاشلة لإعطاء السراج وحكومته شرعية كاذبة للطعن فى مشروعية ما يقوم به الجيش الوطنى الليبى، وتمهيدًا لفرض المزيد من الحصار على تحركاته، بل محاسبته ومحاكمته كميليشيا مسلحة ارتكبت وترتكب جرائم حرب.
هذه المحاولات اليائسة لم تصمد سوى أيام قليلة أمام حقائق الواقع الليبى، فقد خرج المبعوث الأممى إلى ليبيا غسان سلامة محذرًا فائز السراج من وجود عناصر وميليشيات إرهابية ضمن القوات التى يستخدمها فى مواجهة الجيش الوطنى الليبى.
وقد أعقبت تصريحات سلامة تقارير صحفية غربية تفيد باصطفاف عناصر مدروجة على قوائم الإرهاب العالمية إلى جانب السراج.
الغريب أن الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا وغيرهم من الدول التى طالبت المشير خليفة حفتر بالعودة إلى بنغازى كانت على علم بأن طرابلس تعج بالجماعات الإرهابية المسلحة المنتمية لتنظيمى القاعدة وجماعة الإخوان الإرهابيين، ومع ذلك لم يسبق لها مطالبة السراج بمحاربتها أو على الأقل الالتزام بما ورد فى اتفاقية الصخيرات بشأن ضرورة تفكيكها ونزع سلاحها.
من جانبها حاولت حكومة فائز السراج البحث عن مخرج جديد ينال من مشروعية عملية الجيش الوطنى الليبى لتحرير طرابلس، ويحرض الأطراف الدولية الداعمة لها على المشير حفتر وربما دفعها لاتخاذ اجراءات عسكرية ضده، فكان تصريح رئيس مؤسسة النفط الليبية مصطفى صنع الله أثناء اجتماعه مع فائز السراج فى مدينة طرابلس، الذى حذر فيه من الانعكاسات السلبية لاشتباكات طرابلس على عملية إنتاج وتصدير النفط الليبى.
وفى تطور لافت لمستوى الرسائل السياسية والإعلامية التى تصدرها القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، لمخاطبة محيطها الدولى والاقليمى، جاءت تصريحات المتحدث الرسمى باسم القيادة العامة للجيش الوطنى الليبى اللواء أحمد المسمارى ترد بلغة القوة التى لا يفهم الغرب سواها، حيث أعلن أن 95% من حقول النفط الليبية تحت سيطرة الجيش الوطنى الليبى وأن إجمالى انتاجها عاد لمستوى ما قبل أحداث 2011، وأنها فى طريقها إلى مزيد من التعافى، وقال بوضوح لم يعد النفط الليبى حجة لأحد من أجل العدوان على الجيش الوطنى.
غير أن المسمارى ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وربط عملية تحرير طرابلس من الإرهاب بما يبذله العالم من جهود لمكافحته، حيث قال لن نسمح بأن تكون ليبيا بؤرة إجرامية تهدد العالم وأن ما نقوم به جزء مما يبذله لمواجهة الإرهاب.
هذا التطور فى الخطاب الإعلامى والسياسى للجيش الوطنى الليبى رافقه تصاعد التحذيرات الغربية والأمريكية من العناصر الإرهابية التى تقاتل جنبًا إلى جنب مع فائز السراج وإن ظلت بريطانيا وإيطاليا تحتفظان بموقفهما الداعم له، مع ملاحظة خفوت الأصوات الأمريكية الرسمية المطالبة للمشير خليفة حفتر بوقف عمليات الجيش الوطنى والعودة من حيث أتى.
ومع ذلك ظل الجيش الوطنى الليبى يبدو وحيدًا فى صناعة وفرض مشروعية عملياته فى طرابلس من خلال تحركاته العسكرية السريعة وبياناته الصحفية التى يكشف خلالها تورط تركيا وقطر فى دعم وتمويل الجماعات الإرهابية بالسلاح والذخائر والمعدات الثقيلة علاوة على العناصر الهاربة من سوريا والعراق لا سيما المنتمية لجبهة النصرة وتنظيم داعش، لكن زيارة المشير خليفة حفتر المفاجئة إلى القاهرة واجتماعه مع الرئيس عبدالفتاح السيسى فى قصر الاتحادية سرعان ما أضفت مشروعية إقليمية على عملية تحرير طرابلس.
فبدون مواربة أو عبارات مطاطية تحتمل أكثر من معنى أعلن السيسى دعم مصر لكل جهود محاربة الإرهاب، بل قال صراحة إن القضاء على الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية من شأنه أن يعمل على بناء دولة مدنية حديثة عمادها القانون والمؤسسات.
رغم دعم الدولة المصرية الصريح والمباشر للجيش الوطنى الليبى منذ تأسيسه على يد المشير خليفة حفتر وإطلاق عملية الكرامة لاستعادة الدولة الليبية وتحرير كامل أراضيها من فلول الإرهاب، ومطالبتها الدائمة للمجتمع الدولى برفع حظر التسلح على الجيش الليبى ومساعدته فى بناء قدراته العسكرية، إلا أن مصر ملتزمة بمبادئ سياستها الخارجية والتى تقوم على عدم التدخل فى شئون الغير بمعنى أن الليبيين أدرى بشعاب ليبيا ومصلحة مواطنيها، لكن ذلك لا يعنى أبدًا أن تخفى دعمها لجهود الجيش الليبى لتحرير العاصمة طرابلس من الإرهاب، فالمؤكد أن سيطرة الجماعات الإرهابية وتحالف تنظيمى القاعدة والإخوان على طرابلس لم يكن أمرًا مريحًا بالنسبة للقاهرة التى ترصد منذ وقت مبكر الدعم التركى والقطرى للجماعات الإرهابية فى ليبيا، بل ومساعيهما الحثيثة لتكون ليبيا بمثابة الخنجر المسموم فى خاصرة مصر، خاصة مع قيام أنقرة بنقل عناصر جبهة النصرة وداعش الفارين من سوريا إلى داخل الأراضى الليبية ما يعنى تهديدا مباشرا للأمن القومى المصرى.
الدعم المصرى لعمليات الجيش الليبى ضد الإرهاب، وعلاوة على بديهيته فى ظل الممارسات العدائية من قبل تركيا وقطر، يعزز مشروعية عمليات الجيش الوطنى الليبى فى طرابس، وهو ما ستظهر نتائجه على المستويين الإقليمى والدولى بشكل أوضح خلال الأسابيع المقبلة، وقد يتجلى فى إعلان بعض الدول تأييدها لعملية تحرير العاصمة.
المصلحة المصرية لا تقف عند حد تطهير جارتها الغربية من الإرهاب، فثمة مصلحة عليا أخرى تتجسد فى وحدة الأراضى الليبية، ذلك أن استمرار وجود تنظيمى الإخوان والقاعدة الإرهابيين وغيرهما من الفصائل الإسلامية الإرهابية داخل المعادلة السياسية الليبية سيعطل التوصل إلى أى حل سلمى من شأنه وجود ليبيا موحدة، لا سيما وأن الإعلام الغربى وفى مقدمته هيئة الإذاعة البريطانية البى بى سى ما زالت تشير إلى المشير خليفة حفتر باعتباره قائد قوات شرق ليبيا، أى أن تقسيم جارتنا ليبيا جرى فعليًا فى خطاب الإعلام الغربى.
ali.elfateh2017@gmail.com