لم أتوقع وأنا أتابع اسم ونشاط المخرجة السينمائية الليبية نزيهة عريبى أن يحضر فيلمها الجديد ضمن عروض أيام القاهرة السينمائية للأفلام القصيرة والطويلة (من 10 إلى 16 أبريل الجاري) وفى تواصلى مع زميلات بالسلك الجامعى، وهن فنانات تشكيل ومسرح وصحافة، بادرن بأنها ضربة حظ موفقة، إذ الفيلم لم يتح على «يوتيوب» بعد، ويعدون على الأصابع من تمكنوا من مشاهدته، نزيهة من أب ليبى وأم بريطانية نزلت لليبيا بعد ثورة فبراير 2011 م، وهى مصورة فوتوغرافية ودارسة للمسرح، كما حاصلة على الماجستير فى فن السينما، والفيلم «حقول الحرية» وثائقى/ روائي، ورحلة تصوير امتدت لما يقارب الخمس سنوات، راصدة لسيرة ثلاث لاعبات- حارسة الفريق ولاعبتين- بفريق كرة القدم النسائية بطرابلس، وهن يقاومن عوائق أيديولوجية متطرفة الموضوع الرئيس، وقد حصد إشادات وتقدير كما جوائز بكندا ودبى والدوحة، وأدنبرة ودبلن وأمستردام.
أثناء وعقب مشاهدتى الفيلم زاحمت ذهنى أسئلة عدة، أولها المُستعاد الآن فى حرب طرابلس 2019م النساء فيها يتعرضن للعنف والتضييق من تيار إسلامى ومن ميليشيات تحمل السلاح تمنع نشاطهن وتقمع أصواتهن، وأسئلة أخرى ووجهتُ بها على ماسنجر الفيس بوك، وفى حوار مطول حول فن السينما عندنا مع أحد الزملاء الأساتذة بقسم الفنون المرئية- هكذا اصطلح حيث النظام السابق لا يقبل مفردة السينما- فمنذ آواخر التسعينيات والقسم بطرابلس يُخرج المتخصصين فى المونتاج والتصوير والإخراج والسيناريو، لكننا لم نر انشغالا بهذا الفن ومنتج هذا الجيل عدا مشاريع التخرج! وكأن السينما فن حلت عليه اللعنة فى بلد النفط، خاصة إبان قرار غلق المؤسسة العامة للخيالة 2000م، وناضل بعض أسمائها للخروج بأعمال وثائقية- تسجيلية ودرامية يسارعون لمونتاجها فى الجارة تونس (محمد الفرجاني، خالد بوخشيم، عبد الله الزروق، محمد المسماري، ناجى بوسبعة...)، وما يمكن أن يبعث بعض أمل عقب 2011 م حين انطلقت، رغم الظروف التى هى متغير الثورة العسير، مبادرات لمهرجانات سينما أهلية، وخرج عشاق هواة، كثيرهم لا علاقة له بالدراسة الأكاديمية، كان مهرجان «أفلام الموبايل» الذى أسس له المخرج محمد مخلوف ببنغازي، وجرت دورتان لأفلام حقوق الإنسان المحلى والدولى (إيراتو)، ومهرجان السينما الأول بطرابلس، ومهرجان الأفلام القصيرة الدولى بمدينة مزدة 2016 (وسط غرب ليبيا)، وهى سابقة لمدينة خارج العاصمة تتصدى لمهرجان فى ثلاث دورات وآخرها دورة كانت فى ضيافة مدينة البيضاء (شرق ليبيا) 2018م، ووصول الفيلم الليبى لعروض «كان» 2015م، ومهرجان برلين بجهود شخصية للمخرج مؤيد الزابطية، كما تعرفنا على مُخرجات ليبيات: سعاد الجهاني، غادة يعلا، ابتسام المقصبي، خديجة العمامي، ومن عشن بالخارج فرح أبوشويشة، ونزيهة عريبي.
فيلم «حقول الحرية» يفتح بمواجهتنا حقلًا مغايرًا، من يبذرن ويحصدن، ولا غير فتيات هن رياضيات يعشقن المستديرة ويدافعن عنها وعن حقهن فى صولات وجولات أقدامهن بها، حقلهن المفتوح وبلا سياج، جغرافيته ملعب كرة القدم أكثر المشاهد حضورًا ستملأ عيوننا أقدامهن تجرى وتناور فى البراح الأخضر، الفيلم يُدخلنا بيت حارسة المرمى (الصيدلانية ومدربة أشبال كرة القدم فى حيها)، أكثرهن دفاعًا، بل ومغامرة، فهى من تقرر ركوب سيارة فى قلب حرب (غزوة مطار طرابلس 2014 م) متجهة لتونس برا، ومن ثم إلى ألمانيا، رغم قرار منع الفريق المُعلل بظروف أمنية وقرب شهر رمضان، فتواجه بوابة تُحاسبها على أن مرافقها السائق ليس مُحرَما! ستتابع حياتها دون التفريط فى انتمائها لفريق الكرة، تسترجع ذكرياتها عبر اتصال، تخفف فيه وطأة منع السفر للمشاركة بالدورى الألماني، ستلاحق الكاميرا عضوات الفريق، فنشعر بأنهن كلهن بطلات للفيلم، مقاومتهن مبثوتة عالية عبر رأيهن بحقهن فى اللعب، ستتقارب وجوههن ونتابع مشاعرهن فرحًا وغضبا، ما يُحسب للمخرجة نزيهة عنايتها بالتفاصيل، الفيلم يسرد أحداث حياتهن اليومية، من تخيط زر قميصها، وهن فى الأسواق وبين الناس راجلات أو يقدن سياراتهن، من تجالس والدها لتقنعه بأنها لا تفعل إثمًا، خوفًا من أن يؤثر فيه ما يموج بالأخبار وصراخ المنابر، التى هيمن عليها شيوخ التطرف، وعلى وقع إعداد وجبة الغذاء الجماعية بمخيم نزوح لا تتوفر فيه شروط تليق بالإنسان لأهالى مدينة تاورغاء ترد سيدة وبتصميم على اللاعبة، التى تشكو حظها بأن عليها أن تقاوم وتصبر؛ لأنها تمثل ليبيا وطنها، وهذا يستحق تضحيات.
فريق السيدات الذى رصدت نزيهة لسنوات أصراره وشجاعته ونضاله المستميت فى مواجهة كل صنوف التضيق، سيفك أسره وسيخرج للمشاركة فى الدورى الأفريقى للسيدات، وتنطلق لاعباته بالتدريب فى ميادين تونس والقاهرة رغم توالى العراقيل.
السينما فن نحتاجه فى ظروفنا هذه، ولا شك أن فيلم نزيهة كان له أثره، هذا الفن ليزدهر ونقيم أوده يحتاج منح داعمة لمن هم فى أول الطريق، وفتح آفاق الاشتغال على ورش كتابة السيناريو وفنون الإخراج، كما الالتفات لتطوير مناهج أقسام السينما بالمؤسسات التعليمية لتساير وتواكب التطور الحاصل.