قليلٌ هى الفعاليات الإعلامية والثقافية الجادة التى تبتعد عن الشكلانية والمظهرية التى أصبحت تسيطر على كل منتدياتنا ومؤتمراتنا العلمية منها وغير العلمية، ومن بين هذه الفعاليات التى تعكس هذا الواقع الجدير بالاحترام والتقدير المؤتمر العلمى الرابع للمعهد الدولى العالى للإعلام بأكاديمية الشروق، والذى انعقد خلال يوميْ الإثنين والثلاثاء الماضييْن تحت عنوان: «بحوث الإعلام ومنهجية التكامل المعرفى فى إطار التحولات الدولية الراهنة وتداعياتها»، المؤتمر عُقد برعاية د. خالد عبدالغفار وزير التعليم العالى والبحث العلمى والأستاذ محمد فريد خميس مؤسس أكاديمية الشروق، وإشراف د. محمد سعد إبراهيم عميد المعهد وسيادة اللواء الدكتور أحمد عبدالرحيم رئيس مجلس إدارة الأكاديمية ود.سهير صالح إبراهيم وكيل المعهد ود. فاطمة شعبان أبوالحسن مقرر المؤتمر.
وقد شَرُفتُ بأن أكون مُعَقِبًا على جلسة البحوث الأولى المعنونة: «منهجية التكامل المعرفى والتداخل النظرى والمنهجي» والتى رأسها د. حسن عماد مكاوى عميد كلية الإعلام جامعة القاهرة الأسبق، وقد عُرِضَت فى هذه الجلسة المتميزة سبعة بحوث لباحثين من جامعات مصرية وعربية مختلفة بدءًا من جامعتيْ الإمام محمد بن سعود والملك عبدالعزيز السعوديتيْن وجامعة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة وجامعة «باتنة 1» بدولة الجزائر علاوة على جامعة الإسكندرية وأكاديمية الشروق المصريتيْن.
فى بداية تعقيبى على بحوث هذه الجلسة التى تتناول منهجية التكامل المعرفى والتداخل النظرى والمنهجى فى بحوث الإعلام، كان يجب أن أعرج على التطورات والإشكاليات التى تواجه نظريات الإعلام والاتصال على مر تاريخها غير الطويل، وقلتُ إن العام المقبل يشهد مرور 100 عام على أول ظهور لهذا النوع من النظريات التى كانت تستهدف دومًا تحديد حجم تأثير وسائل الإعلام على الجمهور، وهل هذا التأثير كبيرًا أم محدودًا أم معتدلًا؟
100 سنة من نظريات الإعلام والاتصال.. ونحن لم نصل إلى نظريات إعلامية متكاملة، بل إن كل ما توصلنا إليه نظريات أغلبها مستعارٌ من علوم أخرى مثل علم السياسة أو التاريخ أو الحاسب الآلى أو تكنولوجيا المعلومات أو علوم اللغة واللسانيات أو علم النفس أو علم الاجتماع وغيرها من العلوم.
وقد يقول البعض إن هذا هو التكامل المعرفى والتداخل النظرى والمنهجى بين علم الإعلام والعلوم الأخرى، ولكن هذه الإشكالية تُعَدُ دالة فى الوقت نفسه على حداثة علم الإعلام وعدم قدرة منظريه وممارسيه والباحثين فيه على الخروج بنظريات ومناهج جديدة مفسرة للظواهر الناتجة عن الظاهرة الإعلامية أو تستطيع إخضاع هذه الظواهر للدراسة وفق مناهج وأدوات جديدة ناتجة عن علم الإعلام وليست مجلوبة أو منحولة أو مستعارة من خارجه.
ورغم ذلك، فإننا لا نعنى بأُطروحتنا النقاشية هذه انغلاق علم الإعلام على نفسه، لأننا من أكثر المؤمنين بتفاعل الظاهرة الإعلامية مع سياقات أخرى كثيرة سياسية واقتصادية ونفسية واجتماعية ولغوية وإدارية ومعلوماتية؛ فالدراسات البينية جد مهمة فى فتح آفاق لا حصر لها من التكامل المعرفى والنظرى والمنهجي، ولكن هذا يعكس فى الوقت نفسه قصورًا فاضحًا فى علم الإعلام نفسه يتمثل فى عدم وصوله إلى مرحلة النضج والاكتمال والاستقلالية رغم نشوء الظاهرة الإعلامية منذ أوائل القرن السابع عشر مع صدور أول صحيفة مطبوعة وبث أول محطة إذاعية أمريكية فى العام 1919 وبدء تجارب البث التليفزيونى عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ناهيك عن دخولنا منذ ما يزيد عن عقديْن من الزمان إلى عصر الفضائيات والإنترنت، علاوة على قيام علم الإعلام بانتحال نظريات من علوم أخرى منذ قُرابة 100 عام.
ومن أسفٍ أنه لا توجد حتى وقتنا هذا أية نظريات إعلامية عربية مفسرة للظواهر الإعلامية فى السياقات العربية بوجه عام أو السياقات الوطنية فى كل دولة عربية على حدة، بما يعكس المعايير الثقافية والهوياتية لهذه البلدان العربية، والتى تختلف حتمًا تمام الاختلاف عن مثيلتها فى الدول الغربية التى تستعير بحوثنا الإعلامية العربية نظرياتها ومداخلاتها ومقارباتها النظرية لبحث ظواهر إعلامية عربية صرفة.
لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف ولماذا استُخدمت التكنولوجيات الاتصالية الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعى ضدنا بشكلٍ يخرج عن طبيعة هذه الوسائل والشبكات فى العمل على التواصل بين البشر وتحسين ظروف معيشتهم، فإذا بها تُستخدم كوسائل للتحريض والحشد والاستقطاب والقطيعة بين البشر واستهداف تصفية الرموز الوطنية والحض على الكراهية ونشر الأفكار المتطرفة.
لا أحد يعرف كيف أججت التكنولوجيات الاتصالية الحديثة وشبكات التواصل الاجتماعى ما يسمى بثورات الربيع العربى فى تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وفى الوقت الذى ظن البعض أن هذه الثورات آخذة فى الانحسار اعتقادًا بأن الدول العربية قد وعت الدرس، واستطاعت أن تعرف آليات عمل هذه التكنولوجيات والشبكات، إذا بنا نستيقظ على حقيقة أصبحت راسخة وهى أن تلك الثورات لم تكن سوى الموجة الأولى، ونحن الآن فى خضم الموجة الثانية من ثورات الربيع العربي، ويمكن أن ندرك ذلك ببساطة بأن نولى وجوهنا غربًا نحو الجزائر أو جنوبًا نحو السودان.
وقد حاولتُ أن أجد إطارًا نظريًا أصيلًا ومبتكرًا مفسرًا لهذه الظاهرة الغريبة والفريدة فى آنٍ واحد، فقلت فى تعقيبى بمؤتمر أكاديمية الشروق إن تأثيرات وسائل الإعلام تحولت من القوة فى التأثير بمعيار أن الرسالة الإعلامية هى بمثابة «طلقة سحرية» عام 1920 إلى محدودية التأثير عام 1940، ثم تحول هذا التأثير إلى تأثيرات معتدلة عام 1968، إلا أن هذه التأثيرات عادت إلى قوتها المعهودة فى عام 1984. ولعل الكتاب النبوءة للكاتب البريطانى جورج أورويل هو الذى تنبأ بعودة قوة الميديا وتأثيرها على هذا النحو، رغم أن الكتاب صدر للمرة الأولى فى ستينيات القرن الماضي.
إن عودة قوة وسائل الإعلام الضخمة إلى تأثيرها الديناصورى واللحظى على المجتمعات أصبح أمرًا ملحوظًا ويتعارض مع كل ما ذهبت إليه نظريات الإعلام، وهو ما يجعل الظاهرة الإعلامية والاتصالية فى تطورها اليومى والمتلاحق تسبق قدرة المنظرين وأساتذة الإعلام وباحثيه على صياغة النظريات المفسرة لكل ما يحدث حولنا من ظواهر يعجز كل التراث العلمى النظرى فى إيجاد إطار تفسيرى مقنع لها.
أما ما يخص تعليقى على بحوث الجلسة الأولى بالمؤتمر، فسوف أُفرد له مقالى المقبل بإذن الله.