كانت تجربة الأحزاب ما قبل 1952، تجربة سلبية فى محصلتها النهائية بالنسبة إلى نظام 1952، الذى وجد التناقض بينه وبين توجهات هذه النخبة الحزبية والسياسية أو بين هذه النخبة وبعضها البعض، فكانت تجربة ما يسمى بالتنظيم السياسى الواحد، بديلًا عن ما يسمى بـ«التعددية الحزبية»، ولا شك فتجربة التنظيم الواحد، لم تكن وليدة بنات أفكار ثورة يوليو، ولكنها فكرة ونظام تواجد نتيجة لمعطيات سياسية واقتصادية واجتماعية لم تتوافق ولا تتفق مع نظام التعددية الحزبية، خاصةً فى واقع اجتماعى يسيطر عليه ثلاثى «الفقر، الجهل، المرض»، إضافة إلى نسبة الأمية التعليمية والثقافية والسياسية، الشيء الذى جعل فكرة التعددية لا ترى مصلحة هذه الجماهير بقدر ما ترى مصلحتها التى تتوافق مع السلطة، أى سلطة، إضافة إلى أن فكرة التنظيم الواحد وجدت فى المعسكر الاشتراكى حين ذاك، والأهم هو أن فكرة التنظيم الواحد هذه كانت بهدف حشد وتعبية الجماهير حول الثورة لتكملة المسيرة الثورية بعيدًا عن الصراعات الحزبية، مع محاولة تكوين نخبة جماهيرية بديلًا للنخبة النخبوية التى تعتمد على مقدراتها المالية ووضعها الاجتماعى وميراثها السياسي، فكانت تجربة هيئة التحرير فى السنوات الأولى للثورة، وبعد تجربة الوحدة مع سوريا كان تنظيم الاتحاد القومى بديلا لهيئة التحرير، وبعد أحداث العدوان الثلاثى 1956، وأخيرا كانت تجربة الاتحاد الاشتراكى العربى فى أوائل ستينيات القرن الماضي.
هنا ماذا كان وضع ودور تلك النخبة مع هذه التنظيمات؟ فى ظل هيئة التحرير لا نستطيع القول إن نخبة ما قبل 1952، كانت تشارك فى الهيئة كبديل للأحزاب، ولكن كانت هناك نخبة زعامية إقطاعية رأسمالية أضيرت من الثورة وقراراتها، وهذه النخبة تمت محاكمتها أو منعها من العمل السياسي، ولكن هناك دائما وأبدًا أنواع أخرى من النخب، وهى تلك الشخصيات التى تملك بعدًا عائليًا عدديًا أو تلك التى توارثت مواقع فى بلادها مثل العمد وشيخ البلد حتى الخفير وشيخ الخفر، على اعتبار أن هذه المواقع كانت تمثل، خاصةً فى الريف المصري، مواقع سلطوية وتمارس أدوارًا مشروعة وغير مشروعة، باسم السلطة وانتسابًا للحكومة، هذه النوعية من النخب الاجتماعية هى وقود كل الأنظمة؛ حيث لا تستغنى عن النظام ولا يستغنى النظام عنها، وهذه النوعية التحقت فورًا بالنظام وبكل تنظيماته أيا كان المسمى، فهم أمناء وأعضاء فى هذه التنظيمات نيابة عن مواقعهم الجغرافية، أما النوعية الأخرى والأهم بعد الثورة هى تلك النوعية من الجماهير التى آمنت بالثورة وبمبادئها وتوجهاتها، إحساسًا أن هذه الثورة قد أحدثت حراكًا اجتماعيًا للطبقات الفقيرة والمعدومة، خاصةً بعد قانون الإصلاح الزراعى، وتحديد ساعات العمل، وتحديد الحد الأدنى للأجور، ومجانية التعليم بكل مستوياته، إضافة إلى مكاتب التنسيق للقبول فى الجامعات والتعيين عن طريق القوى العاملة.
هنا تشكلت نخبة جماهيرية التحقت بهذه التنظيمات، ولكن للأسف لم تكن تلك النخبة الجماهيرية المنافس السياسى للنخبة المرتبطة بالسلطة للحفاظ على مصالحها الذاتية. فهذه النخبة السلطوية وعن طريق موروثها العائلى والاجتماعى وخبراتها السابقة فى كيفية السيطرة على الجماهير سواء كانت هذه السيطرة تهديدًا أو ترغيبًا، احتلت مواقع هذه التنظيمات بعيدا عن أى قناعات سياسية حقيقية تهدف إلى استمرار الثورة لصالح الجماهير. وعلى ذلك لم يكن الإدراك النظرى للتلازم بين الاجتماعى والسياسى فى المسألة الديمقراطية كافيًا للحيلولة دون ظهور مراكز قوى بيروقراطية داخل مؤسسات الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية، لعبت هذه المراكز دورًا سياسيًا داخل التجربة، واستسهلت المعالجات الأمنية لبعض المشاكل الاجتماعية والإشكالات السياسية، وقد سمحت بنمو مصالح شخصية وذاتية على حساب المصلحة الوطنية والقومية، مما أدى إلى كوارث ونكسات كما هو الحال فى الانفصال 1961، وفى النكسة 1967، هنا ولا شك كان عبدالناصر قد أدرك صعود هذه النخبة التى تحمل ميراثًا تاريخيًا ثقيلًا لا تتنازل عنه؛ حيث إنها تستطيع أن تلبس كل الوجوه الزائفة للحفاظ على مصالحها. فكان التنظيم الطليعى فى الاتحاد الاشتراكى الذى كان تنظيما سريًا، ليس بهدف كتابة التقارير الأمنية والتلصص على الآخر، ولكن كانت السرية بهدف البعد عن أى مظهرية سلطوية أو اجتماعية للذين يصلون إلى موقع حزبي، خاصةً أن الاتحاد الاشتراكى كان قد تحول إلى منتفعين ومنافقين للسلطة على طول الخط؛ فكان التنظيم الطليعى للكوادر المدربة والمؤمنة بالثورة وبالجماهير وتسعى لصالح الوطن دون مقابل ظاهر أو خفي، وتواكب مع ذلك إنشاء منظمة الشباب الاشتراكى وهى منظمة شبابية لتدريب الشباب على العمل السياسى والجماهيرى والتثقيفى لإعداد شخصية مصرية متكاملة ذات بعد ورؤية سياسية حتى تكون هذه المنظمة النبع الذى يصب ويمد الاتحاد الاشتراكى بالكوادر، ولكن كان الترشح للمنظمة بطريقة بيروقراطية تهدف إلى الكم لا الكيف، وفى كل الأحوال؛ فالمنظمة أعدت وأفرزت كوادر سياسية ووطنية، أمدت العمل السياسى على كل المستويات ولا نبالغ أن قلنا حتى الآن. وفى كل الأحوال نستطيع أن نقول إن تجربة النخبة مع التنظيمات السياسية منذ 1952، وحتى وفاة الزعيم عبدالناصر فى 28 سبتمبر 1970، لم تكن فى الإطار الإيجابى كما هو متوقع ومنتظر، حتى إننا رأينا ناصر يصدر بيان 30 مارس 1968، عقب النكسة كنوع من تقييم المرحلة والتجربة، واستعدادًا لمحو آثار العدوان؛ حيث وصف البيان النخبة قائلا: «إن الثورة عجزت عن أن تنشئ تنظيمًا شعبيًا يحمى مبادئها وينتصر لأفكارها، ويضمن الاحتفاظ المستقبلى لحلمها المشروع».. يتبع فى المقال المقبل.