تاريخ مصر الحضارى لآلاف السنين كانت ركيزته الأساسية هى التعليم، وفى كل آثار مصر ومعابدها تجد ما يدل على أن الدقة والحرفية والأسلوب العلمى هو الغالب. وحديثا، كانت نهضة مصر الحديثة فى عهد محمد علي، أساسها التعليم والبعثات وبناء جيش وطنى واقتصاد متنوع.
وبعد ثورة ١٩٥٢، كان هناك اهتمام بالتعليم، وكان الفارق بين التعليم المصرى ونظيره الأوروبى قليل، ولكن للأسف الشديد حدثت انتكاسة فى التعليم المصرى منذ نكسة ١٩٦٧، مع تراجع إنفاق الدولة عليه وعدم تحديث الأبنية التعليمية، وعدم مواكبة التطوير فى المناهج وطرق التدريس وعدم الاستعانة بالتكنولوجيا الحديثة فى التعليم.
ولقد أدركت القيادة السياسية أهمية التعليم فى إحداث نهضة شاملة فى البلاد، وتم تسمية عام ٢٠١٩ بعام التعليم، وتم اختيار أستاذ جامعى خبير فى مجال التعليم والتكنولوجيا، وهو الأستاذ الدكتور طارق شوقى لتولى حقيبة التعليم وهى مهمة شاقة.
ويجب أن ندرك جميعا أن مشاكل التعليم المصرى كثيرة ومعقدة، وأن الوزير الذى يقود هذه الوزارة، مثله مثل باقى الوزارات الخدمية كالصحة والنقل يكون فى موقف لا يحسد عليه.
وإن اختصار إصلاح التعليم فى التابلت والامتحان الإلكترونى وما حدث فيه، هو من وجهة نظري، تبسيط وتسطيح للأمور ولا يستحق كل هذه الضوضاء.
فجميعنا يعرف أن البلاد التى قررت إصلاح منظومة التعليم، مثل: الهند وماليزيا وسنغافورة وهونج كونج وتايلاند والفلبين، قد خصصت جزءا كبيرا من موازناتها (من ٢٠ إلى ٢٥٪ من الدخل القومي)، وخطة استراتيجية ممنهجة وعلى مراحل تستغرق من ١٠ إلى ٢٠ سنة، لكى يتم تطوير وتحديث وتكامل كل مكونات التعليم من مدارس ومدرسين ومناهج وطرق تدريس وطرق امتحانات ونظام قبول بالجامعات يرتضيه المجتمع.
ولأهميته القصوى لمستقبل البلاد، فقد تم تكوين مفوضية عليا أو مجلس أعلى للتعليم يتبع رئاسة الدولة أو الحكومة فى كل البلاد التى أحدثت نقلة نوعية فى التعليم، وقد أثبتت التجربة المصرية أن أى وزير مهما كانت إمكانياته، ومهما كان الدعم الذى يحصل عليه، لا يمكن أن يصلح بمفرده ما أفسدته عدة عقود كان التعليم فيها فى آخر أولويات الدولة.
وليس أمامنا الآن إلا العمل بجد لإصلاح المنظومة، بكل عناصرها، وفى وقت واحد، والصبر على النتائج وأن نتقبل الخطأ، وأن نكون قادرين على تقبله وإصلاحه، وسوف نخصص عدة مقالات لتغطية هذا الملف المهم لحاضر ومستقبل هذا البلد العظيم.
ومنظومة التعليم فى أى مجتمع منظومة شديدة التعقيد والخصوصية، ومرتبطة بثقافة وموروث هذا البلد وإمكانياته المادية ورؤية القيادة السياسية وتقبل المجتمع، وكلها عوامل يجب أن تؤخذ فى الاعتبار عند تطوير أى من المكونات التى يتكون منها التعليم، وهى المدارس والمدرسين وإدارة العملية التعليمية وطرق التدريس والمناهج والامتحانات واستخدام التكنولوجيا فى التعليم وغيرها.
ولنبدأ بالمدرسة والتى تمثل المشكلة الكبرى التى تواجه تطوير التعليم والتى تحتاج إلى أموالا طائلة، لا تتحملها ميزانية الدولة فى الوقت الحالي. ولذا يجب وضع خطة من ٥ إلى ١٠ سنوات، لزيادة عدد المدارس وتقليل كثافة الفصول، وجعل المدرسة جاذبة للتلاميذ وجعل التعليم متعة وتثقيف وتربية وليس حفظا وتلقينا.
ويبلغ عدد المدارس والتلاميذ فى مصر، حسب تقرير صادر عن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء للعام 2016/2017، أن إجمالى عدد مدارس مصر بلغ 52 ألفا و664 مدرسة، منها 45 ألفًا و279 مدرسة حكومية، و7 آلاف و385 مدرسة خاصة.
وأن إجمالى عدد التلاميذ على مستوى الجمهورية بلغ 20 مليونًا و642 ألف تلميذ، منهم 18 مليونًا و608 ملايين تلميذ بالمدارس الحكومية، (بنسبة تعادل تقريبا ٩٠٪) من مجموع تعداد التلاميذ، ومليونان و32 ألف تلميذ بالمدارس الخاصة (بنسبة تعادل تقريبا ١٠٪)، وقد بلغ إجمالى عدد الفصول بالمدارس الحكومية 419 ألفا و900 فصل، و62 ألفا و700 فصل بالمدارس الخاصة.
وحسب تصريحات للسيد الأستاذ الدكتور طارق شوقي، فإن أزمة زيادة كثافة الفصول الدراسية تعود إلى عدة عقود ماضية، وأن الأزمة لن تحل قبل 10 سنوات، وأن هناك حاجة إلى إنشاء ٢٠٠ ألف فصل جديد، وأن متوسط أعداد التلاميذ داخل الفصل ٤٥ طالبًا، وأن هناك أماكن تزداد الكثافة فيها عن ٧٠ تلميذًا للفصل الواحد. وأن خطة الحكومة التى تم تقديمها إلى مجلس النواب تفيد بأن الفصل الواحد يتكلف ما بين نصف مليون ومليون جنيه، وبذلك فالوزارة تحتاج من 5 إلى 6 مليارات للأبنية التعليمية فقط.
ويجب أن يراعى فى المدارس الجديدة أن تكون مدارس ذكية، وأن تتمتع بمعامل الكمبيوتر والاتصال بشبكة المعلومات الدولية، وأن يكون بها مكتبات حديثة وأن تتواصل ببنك المعرفة، وأن يكون بها مساحات فراغ تسمح بإقامة أنشطة طلابية، وأن تكون جاذبة ومحفزة للتلاميذ على الحضور والمشاركة فى التعليم والتعلم النشط.
ومهما كانت التحديات، فيجب على الحكومة تخصيص المبالغ المطلوبة لإنشاء المدارس الجديدة، حتى ولو بالمشاركة مع القطاع الخاص، وتقليل الكثافة العددية للتلاميذ داخل الفصول خلال فترة وجيزة، حيث إن الوضع الراهن غير صحى ويقلل فرص التواصل بين المدرس والتلاميذ، ويقلل الفهم والتركيز والمتابعة والتعلم الجيد، ويندر القيام بالأنشطة أو المشاركة بفاعلية مع المعلمين داخل الفصول.
وأتذكر وأنا تلميذ فى المدرسة الابتدائية والإعدادية فى قريتى فى سبعينيات القرن الماضي، أنه كان هناك حوش للمدرسة يسمح بحصص للألعاب، وكنا نمارس لعب كرة القدم داخل المدرسة، وهو ما يندر توفره الآن.
وأصبح حال المدارس الحكومية الابتدائية والإعدادية وحتى الثانوية، فى معظم قرى ومدن مصر، لا يفى بمتطلبات العملية التعليمية، فمنظر تكدس التلاميذ داخل الفصول وسوء دورات المياه وتهالك المبانى وحالة الضوضاء وعدم النظام، يوحى بأن مدارسنا أصبحت منفرة للتلاميذ، وأن مجهودا جبارا يحب أن تبذله الحكومة لجعل المدارس عصرية وحديثة، ومن ثم قادرة على جذب التلاميذ وتأدية خدمة تعليمية جيدة.. وللحديث بقية.