لم تجد سلطة الاحتلال الإنجليزى حلا مع سعد زغلول سوى اعتقاله هو وزملاءه، خاصة بعدما أرسلوا برقية لرئيس الوزراء البريطانى يطلبون فيها السماح لهم بالسفر إلى مؤتمر باريس للتحدث باسم القضية المصرية، ويشكون تعنت المندوب السامى البريطانى معهم، ونتيجة لهذه البرقية رأى المندوب السامى البريطاني، ضرورة القبض على سعد وصحبه، وبالفعل تم إلقاء القبض عليه هو وثلاثة من أصحابه، وهم محمد محمود باشا وإسماعيل صدقى باشا ومحمد الباسل باشا، وذلك عصر يوم السبت الموافق للثامن من مارس عام 1919، وتم احتجازهم بثكنة قصر النيل؛ حيث قضوا ليلهم بها، وفى صباح اليوم التالى تم نقلهم إلى بورسعيد على متن القطار، وهناك كانت تنتظرهم باخرة إنجليزية، ومعها الأمر بالتحرك إلى جزيرة مالطة، والتى اختارها الاحتلال مكانًا لنفى سعد وزملائه الثلاثة، ولكن هذه الإجراءات لم ترهب باقى أعضاء الوفد، الذين قرروا إرسال مذكرة عاجلة إلى السلطان فؤاد يعترضون فيها على ذلك التصرف الأحمق من جانب الإدارة الإنجلبزية، ويطلبون منه الوقوف إلى جانب الشعب والتدخل السريع للإفراج عن سعد وصحبه، وفى الوقت ذاته أرسلوا برقية إلى سلطة الاحتلال يحتجون فيها على الإجراءات التى تمت مع أربعة من أعضاء الجمعية التشريعية، وبدأ الخبر يسرى بين أبناء الشعب بسرعة تفوق الخيال، فسادت روح السخط بداخل الجميع، واشتعلت نيران الغضب فى النفوس، وبدأت شرارة الثورة بمظاهرة لطلاب مدرسة الحقوق «كلية الحقوق الآن»؛ حيث امتنعوا عن تلقى الدروس يوم الأحد الموافق للتاسع من مارس، واجتمعوا فى حديقة المدرسة بالجيزة ليعلنوا إضرابهم وقد حملوا لافتة كبيرة كتبوا عليها «لن ندرس القانون فى بلد يداس فيه القانون»، ثم توجهوا إلى زملائهم فى مدرسة المهندسخانة «كلية الهندسة الآن»؛ حيث إنضموا إليهم ثم ساروا فى مظاهرة واحدة إلى مدرسة الزراعة؛ فخرج طلابها أيضا وراحوا يتحركون نحو شوارع القاهرة وهم يهتفون «سعد.. سعد.. يحيا سعد»، ويرددون أيضا «يسقط الاحتلال.. تحيا مصر»، وفى شارع قصر العينى التقوا بطلاب مدرسة الطب الذين خرجوا رغم إرادة مدير المدرسة الإنجليزى، والذى حاول منعهم بالقوة، وبغلق الأبواب، ولكنهم حطموا الأبواب وانضموا إلى زملائهم من الكليات أو المدارس الأخرى، وواصلوا السير حتى وصلوا إلى ميدان السيدة زينب، والذى كان من أكبر وأهم الميادين وقتها، فحاصرتهم الشرطة التى قادها الإنجليزى «آرشر» وكيل الحكمدار، ولكن أبناء الشعب اختلطوا بالطلاب فتكاثرت الأعداد حتى وصلت إلى عدة آلاف، وامتدت جحافل المتظاهرين من السيدة زينب إلى باب الخلق، وأمر القائد الإنجليزى بضرب المتظاهرين وتفريقهم بالعصى واعتقال بعضهم، وبالفعل تمكنت سلطات الاحتلال يومها من اعتقال ما يربو على الثلاثمائة طالب، وهكذا كان يوم التاسع من مارس 1919، هو أول أيام تلك الثورة الخالدة، فقد كان يومًا عصيبًا على الإنجليز الذين لم يتصوروا أبدًا أن تكون ردة الفعل على اعتقال سعد بهذه القوة، وظنوا أن الأمر قد انتهى فى مساء 9 مارس، وأن شحنة الغضب عند المصريين قد تفجرت، وأن الغد سيأتى بسكون واستسلام، ولكن جاء اليوم التالى بعكس كل التوقعات، فقد أعلن طلاب المدارس العليا عن إضراب عام وانضم إليهم طلاب الأزهر، وخرجوا فى مسيرة كبرى مع الآلاف من أبناء الشعب وتوجهوا إلى السفارات، أو بلغة ذلك العصر «دور المعتمدين الأجانب»، وراحوا يهتفون للحرية والاستقلال، ويطالبون بالإفراج عن سعد وصحبه، ويبدو أن الإنجليز كانوا قد قرروا التصدى لتلك المظاهرة بكل القوة والحسم، ولذا فقد أطلقوا الرصاص الحى باتجاه المتظاهرين، فسقط أول شهيد فى ثورة 19 وهو غلام مجهول لم يتعرف عليه أحد، ولكن سقوطه أمام أعين الجميع دفع الناس إلى مزيد من الغضب، وجعل الإنجليز يخافون من رد الفعل فانصرفوا هربا وتركوا الساحة للمتظاهرين، وحين وصل خبر استشهاد أحد المتظاهرين إلى عامة الناس، قرر سائقو الترام الإضراب وتبعهم سائقو عربات الحنطور، وأغلق معظم التجار حوانيتهم، وخافت البنوك من حالة الهرج والمرج فأغلقت أبوابها، ورغم عدم وجود وسائل اتصال كالموجودة حاليا؛ فإن خبر المظاهرات طار إلى جميع الأقاليم، وفى يوم الثلاثاء 11 مارس أعلنت السلطة العسكرية الإنجليزية تحذيرًا إلى المصريين بعدم الخروج فى المظاهرات؛ لأن هذا يخالف الأحكام العرفية المعمول بها فى البلاد، ولكن المصريين لم يلتفتوا إلى هذا النداء الذى نشر فى الصحف وألصق على الجدران، وسمعه أبناء مصر عبر الميكروفونات الدائرة على عربات القوات الإنجليزية، واستمرت المظاهرات وامتلأت شوارع القاهرة بالآلاف من المتظاهرين، وفى نفس التوقيت خرج أبناء المحافظات الأخرى وقطعوا الطرق وأوقفوا القطارات وصارت حالة من الهيجان الشعبى ضد الاحتلال قابلتها حالة من الجنون الإنجليزى؛ حيث قاموا بإطلاق النيران بشكل عشوائى، مما أدى إلى وفاة عدد كبير من المتظاهرين وإصابة المئات، ومع ذلك لم يخف هذا الشعب الأبى واستمر فى ثورته التى يعهد الإنجليز مثلها من قبل منذ جاءوا مصر بطلب من توفيق، ودخلوها فى سبتمبر 1882..
وللحديث بقية..