لقد بدأت بعض الأقلام المسيحية تشعر بالخطر، وتدعو الى تشكيل مرجعية مسيحية علمانية موحدة بمستوى الازمة. ولقد قرأتُ هذه الدعوات باهتمامٍ وتمعُّن، لأنها تعطي أملًا لتغيير المشهد المسيحي العراقي. إزاء كل هذا، أتمنى أن تهبّ روح منعشة على واقعنا "الرمادي" المُقلِق والمُخيف، لتُعيننا على مواجهة التحديات المهدِّدة لوجودنا التاريخي. كلنا نتحمل هذه المسؤولية المصيرية.
وهنا اُنوِّه بقوة إلى ما عبَّرت عنه العديد من الدول الكبرى من اهتمام بالمسيحيين وحرصٍ على بقائهم في أوطانهم ودعمهم لحقوقهم كاملة كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات. وأذكر على سبيل المثال: أمريكا وروسيا وفرنسا وانكلترا وألمانيا وإيطاليا واسبانيا والنمسا وهنغاريا فضلا عن الفاتيكان.
ببساطة، إني أعزو هذا الدعم الى ما عاناه المسيحيون ولا يزالون من أعمال العنف والاضطهاد وإلارهاب؛ وأيضًا إلى تأكيد الغالبية المسلمة على ضرورة بقاء المسيحيين في بلدهم واستمرارهم في العيش ضمن مجتمع متعدد، بعيدًا عن التطرف والطائفية والمحاصصة وخصوصًا انَّ المسيحيين هم سكان البلد الأصليين.
لقد نخرت الهجرة الجسم المسيحي لأسباب واقعية، واخذت أعدادهم تتضاءل بشكل مخيف، وإذا استمرت الهجرة والتشظّي وضبابية الرؤية على هذا النحو، فمصيرنا سيكون مثل مصير اليهود عام 1948. اني أحترم القرار الشخصي في الهجرة والشخص هو من يتحمل مسؤولية قراره، لكنني لست الشخص الذي يطلب من أية جهة تسهيل ذلك، لأني اؤمن أن الهجرة سوسٌ ينخر الجسم المسيحي، بسبب التشتت هنا وهناك والضياع في ثقافات ومجتمعات جديدة وغريبة عن تراثنا وثقافتنا، سوس ينخره معنويا حتى لو بقي البدن حيًا!
لذا اُجدد دعوتي للمسيحيين العراقيين إلى التغيير في رؤياهم وفي سلوكهم بدلا من الانتقادات غير النافعة والصراعات من أجل مصالح ضيقة: فالموصل فرِغَت من مسيحيّيها، وهناك ضغوطات على بلدات سهل نينوى من أجل تغيير ديموغرافيتها، والتأثير السلبي على من عاد إليها، والكل يعلم أن معظم الأحزاب المسيحية مختَرَقة، واجنداتها السياسية لا تأخذ بعين الاعتبار الوجود المسيحي، وتشهد على ذلك الانتخابات الاخيرة. لذا فالمسؤولية الملقاة على عاتقنا كمسيحيين تتطلب منا أن نتحد ونشكّل مرجعية بمستوى المأساة، وإلا فإن القادم أسوأ.
أجل، بات ضروريًا الآن، أكثر من أي وقت مضى، رفض حالة الشؤم واليأس، والتحرك السريع لجمع الشمل، لإنقاذ ما يمكن إنقذه، لأن القواسم مشتركة وهي عديدة والمصير واحد؛ وثمة ثقافة مسيحية مشتركة لا تقبل التقسيم؛ وبعيدًا عن تجاذبات التسمية وصراع المصالح، ينبغي الآن وليس غدًا، تشكيل "خلية أزمة" من كلا الجنسين: من أشخاص مخلصين لهم قدرات فكرية وعملية واضحة وقراءة وتنظير للواقع، والعمل على تأسيس مكتب رصد (مرصد مسيحيّي العراق) لمتابعة الانتهاكات بحقهم، بجدية تامة، خصوصا قانون الاحوال الشخصية.
إننا نحتاج الى أفعال وليس إلى ثرثرة المنتقدين الطارئين وغريبي الأطوار غير المسؤولة. على المسيحيين داخل العراق وخارجه تحمل مسؤولياتهم التاريخية من خلال الحوار الصادق والحكمة والرؤية. نحن ككنيسة نبقى بالطرق الممسموحة والمناسبة ندعمهم، ولكن من دون أن نحل محلهم. هذا هو في اعتقادي، المخرج الوحيد الحضاري لتغيير واقعنا وتقوية بقائنا في أرض الآباء والأجداد، وتأدية دورنا الريادي في وطننا الأم، ونحن جزء لا يتجزأ من نسيجه.
الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكلدان الكاثوليك بالعراق
نقلًا عن مركز الدراسات والإعلام الكاثوليكي