الموقف فى سوريا بكل أبعاده، وقراءة الموقف العسكرى بكل تراكماته، تهدف لتحديد نقطة الصفر لإعطاء إشارة بدء الماراثون النظام الإقليمى المطروح وتبادل الكراسى الرئاسية لدعم قوى على حساب قوى.. وما بين السطور التأهب لاتخاذ قرارات وفى كل الأحوال علينا أن نرصدها بعناية لنجد أنفسنا أمام قرارات انقلابية وقد يقودنا الموقف إلى التصادم وأن نتابع ونتعامل بالاحتياط الكلي.
فى عهد الرئيس حافظ الأسد كان يحرص على ضرورة الاحتماء بالعرب الذى يوفر له مثلث التعاون (مصر والسعودية وسوريا) وكثيرًا ما تعقد جلسات مطولة.
أذكر أنه فى منتصف التسعينيات انعقدت هذه القمة بقصر المنتزه وانعقد المؤتمر الثلاثى فى غرفة مقفلة وساد جو من الصمت على فعالياته ولم تلتقط أى صور وقد شهدت العواصم الثلاث العديد من المؤتمرات المهمة إلا هذا المؤتمر الذى أحيط بالسرية بل إن وسائل المتابعة التى حاولت أن تقرأوا سطرًا من سطور المحادثات فشلت فقد اتضح من الاحتياطات المتخذة أنها فشلت.
سوريا كانت لاعبًا بارزًا على الساحة السياسية فى المنطقة ولها أدوار معروفة بالبحث عن مصير لبنان، وأذكر أن وزير الخارجية اللبنانى سهيل شماسى عندما استقبلنا وعددا من الزملاء بالسفارة اللبنانية بواشنطن عام ١٩٩٢م، وقيل له هل تعتقد أن مفتاح الحل اللبنانى موجود بالخزانة السورية رد الرجل مستنكرًا يريد أن يعطى سائليه أن القرار اللبنانى موجود فى خزانة دمشق ورد مدافعًا عن قدرة شعبه.
المسودة البريطانية التى حملت اقتراحًا بتشكيل نظام عالمى وثنائى القمة أمريكيًا وأوروبيًا وهى المسودة التى تدور حولها الآن مداولة الوفاق الأمريكى الأوروبي، ولأن كل نظام عالمى فى حاجة لنظم إقليمية لتلتئم بتوافق الاتساق وهذا يعنى أن هناك إخطارًا بدأت تتحقق خطواته نحو حضور أوروبى أمريكى فى المنطقة.
قد كانت القمة التى أقامها الرئيس عبدالفتاح السيسى بالقاهرة بحضور العاهل الأردنى ورئيس الوزراء العراقى لا تحتاج لتعليق أو دعوة لنظام عربى أو محور لكنها تؤكد أن الصحوة لما يجرى فى الظلام الذى أصبح يحسب بالساعات ونخطئ أن تصورنا أن التنسيق الأمريكى الفرنسى يعكس تطابقًا بين أجندة القوتين فهناك اتفاق حول بنود الأجندة ولكن الخلاف يباعد فى ترتيب أولويتهما فقد كشفت الأحداث تداعى أمريكا لتفكيك النظام السورى كدولة وفشلت فى صياغة معادلة أمنية لإسرائيل وحل القضية الفلسطينية.. فأمريكا تتحرك حاليًا لرسم (أقواس) لحصار النظام مع تركيا وهذه التسمية لا تستقيم مع حقيقة ما تم وبطريقة بهلوانية ترامبية، ولا نريد أن نترافع حول المشروعية وبطلان ضم الأراضى لإسرائيل ولا نستطيع أن ننظر إلى ما صدر عن ترامب تجاه الجولان تنفصل عن الرؤية فى قمة تونس والانتخابات الإسرائيلية ولا يمكن أن نفصلها عن موضوعات الترتيبات الاستراتيجية على الأراضى العربية والتى تم الإعداد لها مبكرًا والفرق كما قيل فى الكواليس السياسية أنها (أراضى الاختبار الأمريكى للنظام العالمى الجديد) والجولان البداية لذلك فإن لبنان وسوريا هى أرض الاختبار الأوروبى الأمريكى لإعادة صياغة بناء النظام الجديد.
وفى الإسكندرية كانت القمة المصرية الإماراتية وأكدت على لسان الرئيس السيسى أن العلاقات مع الإمارات نموذج يحتذى به، وأكد الشيخ محمد بن زايد أن دور مصر محورى فى دعم الاستقرار بالمنطقة ورفض التدخل بالشئون الداخلية للدول العربية ومن المنطلق الديناميكى فى التحرك الدبلوماسى ورد الفعل باعتبار الجولان أرض عربية محتلة وفقًا لمقررات الشرعية الدولية، وتأكيد القاهرة على التصدى للمعاناة الإنسانية فى سائر الأراضى الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية.
إن إجراء ترامب أراد أن يطمئن رئيسه بنيامين نتنياهو أنه بمثابة (المرشد) لسياساته وتشعر أن ترامب تخطى مرحلة الهوى عن عشق إسرائيل وهو على استعداد لتسليم كرسى العرش الأمريكى له لكى يتولى هو إدارة أمريكا وقد وضع فى قلبه بطيخة صيفي.
هل هذه الورقة غير الأنيقة ترتقى إلى مرتبة الوثائق، إنها الورقة التى لا ترسى قواعد سلام لكنها تشعل الحرائق، إنها ورقة لا علاقة لها بمفهوم التفاوض لكنها صيغت بفكر المغتصب والسارق، نسأل الرئيس الأمريكى هل ما اتخذته يتفق مع الأصول والقواعد الدولية، هل أنت مع نفسك فى هذا الإجراء صادق... هل هذا تصرف محترم ومقبول لسياسى قبل أن يكون رئيس دولة عظمى يرتدى بدلة الحرب بملابس مدنية وبفكر تصفية الكيان العربي، ولنترك الماضى لأنه مضى، ولأن الحاضر لا يشبهه من قريب ولأن استعادته تكون شبه مستحيلة ورغم ما تعاينه سوريا وهى تحاول جمع بقايا سيادتها والبحث عن هويتها تحت الركام، أين الشراكة بين أوروبا وأمريكا فى هذه الخطوة أين ما يعرف بأسلوب (التدرجات النسبية) التى ترجع إلى ما يسمى مرجعية حقوق الإنسان المتعدد الاتجاهات، أين التأهيل الأيدلوجى لمفهوم حقوق الإنسان على الساحة من الناحية الفكرية أو حقوق اللاجئين الفلسطنين وحقوق التملك، هل هذه الحقوق (استغلقت) فقط على المفاهيم الأمريكية والأوروبية، هل لابد من مراجعة التركيب الطائفى السياسى والضمانات السياسية المطلوبة، هل أصبح الوجه الحقيقى للتضارب بين أمريكا وأوروبا يعتمد على أن تقدم أمريكا الهدايا لإسرائيل بينما لا تستطيع أوروبا مشاركتها فى هذا السخاء السياسى والاقتصادى وبينت أنها عاجزة عن الوفاء بالمزيد من هذا البذخ.. وفرنسا حاليًا ترأس دورة مجلس الأمن ورغم اتساع دائرة الرفض لقرار ترامب فإن ما يتم اتخاذه هو استنساخ للمواقف العنترية الفارغة منهم، وهناك محاولة مداخلة تركية لرفض قرار ترامب وقمة تونس العربية، وما زالت خطة الكرملين للقضية السورية فى مرحلة الدراسة الخططية.
إن كل ما اتخذه ترامب لا يخدم الولايات المتحدة فهو يتصور أنه يصيب جميع العصافير السياسية بحجر واحد لكن النتيجة أن هذه الأحجار ستلقى فوق رأس مدبرى السوء والإساءة للأمة العربية.. فى عز النشوة التى يعيشها فى وهم الانتصار الوهمى فهو يتصور أن كل أمله أن يكون رئيسًا لإسرائيل ويتبادل المواقع مع نتنياهو الذى يريد أن يسلمه مقعده فى البيت الأبيض، وفى كل الأحوال نقول له إن الفشل الأكبر فى انتظاركم وكما يقول البسطاء إن (قفا حلفاء اليوم) سوف يقمر عيش.
أما الإعلام العربى الكسيح الذى يردد اصطلاح وثيقة ترامب نقول له لا وثيقة.. ولكنها حريقة.