شهدت مصر خلال الأسابيع
الماضية نشاطًا دبلوماسيًا عربيًا مكثفًا تمثل فى لقاءات جمعت بين الرئيس السيسى
ورئيس الوزراء العراقى عادل عبد المهدي، قمة ثلاثية ضمت إليهما ملك الأردن
عبدالله، ثم زيارة ولى عهد أبوظبى محمد بن زايد. القمم الثنائية بين قادة مصر
والأردن أو الإمارات رغم كونها جزءًا من نسيج التسيق الدائم والعلاقات الوطيدة،
إلا أنها تكتسب أهمية خاصة فى ظل ظروف دقيقة تمر بها المنطقة وتحديات غير مسبوقة
يواجهها الأمن القومى العربي. العمل العربى المشترك وإنهاء الخلافات بين الدول لم
يعد رفاهية يملكها العرب مقابل التهديدات التى تنذر بتمزيق الأراضى العربية وفق
«شطحات» الرئيس الأمريكى ترامب على تويتر.. لتلغى بتغريدة عمل الأمم المتحدة على
مدى خمسين عامًا وتحيل قراراتها إلى مجرد حبر على ورق ثمنًا لإتمام الصفقة
الانتخابية المتبادلة مع رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو وضمانا لإنهاء أى تهديد تمثله
مرتفعات الجولان على أمن إسرائيل.
زيارة عبدالمهدى بالتأكيد
تحمل خصوصية ورسائل ذات صلة مباشرة بالمشهد السياسى العراقى والعربي. ازدياد مساحة
تأثير الدور المصرى على الساحتين العربية والدولية، يحتم عدم ابتعاد مصر عن
العراق. موقع العراق الجغرافى، ثم توالى صدمات التغيير التى توالت عليه منذ عام
2003 بكل نتائجها الكارثية، وضعه فى بؤرة تنازع بين المصالح الإقليمية بحكم امتداد
الحدود المشتركة مع قوتين إقليميتين، تركيا- إيران، أصبحتا تمارسان علنا أطماعهما
فى بسط النفوذ على المنطقة العربية. تغيير التركيبة السياسية التى أبعدت العراق عن
مقومات الدولة السيادية لصالح ترسيخ قواعد جديدة للحكم تنأى بنفسها عن الصيغة
الطائفية التى تكرست بعد إزاحة صدام حسين، بالإضافة إلى الانتصار العسكرى الذى
حققه الجيش العراقى على تنظيم داعش، تضع على عاتق الأسماء التى اختيرت لقيادة
المرحلة السياسية المقبلة، إذا ما كانت جادة فى تنفيذ رغبتها المعلنة حول التوجه
نحو استقلالية القرار والبعد عن هيمنة القوى والدول الإقليمية المسكونة بنوازع
التدمير بدلا من بناء قواعد دولة عراق ما بعد 2003.. من جهة أخرى، واقع حال المشهد
السياسى العراقى يؤكد أن التغلب على سلبيات الواقع السياسى الحالى بكل آفاته
المتجذرة تكمن فى النعرات الطائفية التى تتناقض مع روح المواطنة وممارسة استقلال
سيادة القرار ومنع التدخل فى شئونه الداخلية هو ملف فى غاية التعقيد، لن يكتب له
النجاح بمعزل عن دعم سياسى من الدول المؤثرة من أجل إعادة ربط العراق بمحيطه
العربي، التوسع فى فتح آفاق العلاقات مع الدول العربية وفى مقدمتها مصر، بعدما
اقتصرت علاقات وتفاعلات العراق منذ 2003 على دولة إقليمية واحدة.
الملف الأمنى أيضا يفرض
نفسه بقوة.. أولا العراق حاليا يعيش مرحلة تجاذب شديد كونه أصبح مركز ضغط للصراع
بين الطرفين، أمريكا- إيران، بل إن منطقة شمال العراق ليست بعيدة عن انتهاكات
تركيا العسكرية ردا على خلافها مع أمريكا حول الأحزاب والقوى الكردية، التنسيق بين
مصر والعراق والأردن ضرورة تفرضها عدة ملفات. أعضاء تنظيم داعش الفارين من العراق
وسوريا وتوجه أعداد كبيرة منهم إلى ليبيا التى تربطها غربا بمصر مساحة حدودية
كبيرة.. اعتراف أردوغان علنا عزمه نقل أعضاء التنظيمات الإرهابية عبر المناطق
الحدودية إلى مناطق نزاع أخرى داخل الأراضى العربية.. كلها إشارات إلى ما ورد
بصيغة مباشرة فى البيان الختامى للقمة الثلاثية (الخطر العابر للحدود يستلزم
مواجهة عربية مشتركة).
ترامب بدوره يسعى إلى
تصفية الصراع العربى الإسرائيلى وفرض رؤيته على العرب بسياسة الأمر الواقع.. علما
بأن قراراته السابقة ستزيد من اشتعال العنف ليس داخل فلسطين فقط، إنما على صعيد
المنطقة.. فى المقابل كل الجهود الأمريكية لإقناع الأطراف العربية قبول ما أطلق
عليه «صفقة القرن» باءت بالفشل بعدما أيقن الجانب العربى أن دور «الوسيط» الأمريكى
فى تسوية القضية الفلسطينية مجرد عبث أصبح يشكل جزءا من المشكلة وليس الحل.
التنسيق بين مصر والأردن تتضاعف أهميته فى مواجهة خطط تسويات تهدف إلى تصفية
القضية الفلسطينية من كل ثوابتها الراسخة استغلالا لحالة ترهل منظومة الأمن العربى
والتراخى عن فكرة إنشاء القوة العربية المشتركة. هذه الصفقات التى تتوالى ملامحها
المشبوهة عبر اقتطاع أجزاء من الدول العربية، قد يمتد بها ازدراء الشرعية الدولية
إلى المطالبة بجزء من الأردن، أو يدفعها الشطط نحو سيناء، رغم أن دخول الجيش
المصرى لتطهير سيناء من التنظيمات الإرهابية التى توافدت على هذه المنطقة خلال
العام الظلامى لحكم جماعة الإخوان ومازالت تتم تغذيتها من جهات معلومة للجميع، قد
أغلق الباب نهائيًا أمام هذه الصفقات الشيطانية.
اقتصاديا.. الملاحظة المؤسفة التى ستصدم أى زائر للعراق.. غياب الصناعة المصرية فى مقابل انتشار كثيف لمثيلاتها من إيران، تركيا، الهند، الصين. العراق يمثل سوقا استهلاكية كبيرة أمام مختلف المنتجات والبضائع المصرية.. مع الاعتراف بأن المنافسة تتطلب جهودا من هيئة تنمية الصادرات نتيجة تدفق تهريب البضائع الإيرانية والتركية عبر حدود العراق الشمالية والجنوبية. العلاقات الاقتصادية بين الدولتين تأخرت كثيرا للارتقاء إلى الحجم المأمول بما يلبى متطلبات السوق العراقية. مصر أولى- بحكم خبراتها- فى تصدر هذه السوق بالإضافة إلى ملفات إعادة الإعمار على صعيد مختلف قطاعات البنية التحتية وعودة العمالة المصرية.