لكل معركة تخوضها أمه ما أدواتها التى يجب أن تتوفر لتتمكن من تحقيق نتائج إيجابية خلالها ولا يمكن تحقيق مكسب بغياب تلك الأدوات وبإدراك حقيقى لأولوياتها، لكن يبدو أننا لا نتعلم الدرس جيدًا وأن تجارب التاريخ لا تمثل لنا شيئًا.
ففى تلك اللحظة التى تواجه فيها مصر حربًا ضارية ضد الإرهاب وتنظيماته والتى تزايدت بقسوة عقب نجاح ملايين المصريين فى الإطاحة بحكم جماعة الإخوان وانتصار ثورة 30 يوينو فى تحقيق هدفها الرئيس وربما الوحيد الذى أعلنته وهو «يسقط حكم المرشد».
ومنذ تلك اللحظة باتت مصر تواجه خصمًا عنيفًا دمويًا وليس هذا فحسب بل هو خصم زرع فى تربة الوطن على مدار عقود طويلة بذور فكره ونبتت كثيرًا منها لتصبح نباتات شديدة التأثير وسريعة الانتشار لأنها تستخدم خطابًا دينيًا لديه قبول واسع بفعل عوامل إقليمية دعمته وبفعل غياب حقيقى لمشروع وطنى يتنبى التنوير وإصلاح الخطاب الدينى فى المؤسسات الدينية الرسمية.
لكن مع تلك المخاطر لا يدرك البعض أن الأمر فى أساسه يبدأ فكرًا فهذا الشاب الذى قرر أن يفخخ نفسه داخل هدفه قام بهذه العملية القاسية بل شديدة القسوة بعد أن تعرض بشكل منهجى لعملية «زرع عقل» فصار عقله وضميره يتسقان تمامًا مع أفكار الجماعة - أى جماعة - التى ترى فى العنف وسيلة للوصول إلى غايتها.
هل ندرك أن الأفكار أخطر من القنابل؟ وأن الأيدى التى تحمل الديناميت ليست سوى حلقة أخيرة فى سلسلة معقدة يمر بها هذا المفخخ.
ولعل السؤال الذى نحن بصدده هو أنه إذا كان العنف يبدأ فكرًا فلماذا تغيب السبل الفكرية عن معركتنا الآن ولماذا أيضًا لم تستعد الثقافة والفنون لخوض معركة هى فى جوهرها ثقافية بشكل رئيسى وبها شق أمنى، وليس العكس.
هل تراجع دور الفن والثقافة يعنى عدم إيمانهم بهذا الدور فى هذه المعركه وهل غياب المثقفين - فى معظمهم - عن خوض غمار المعركة يبعث رسالة بأن الثقافة فى مصر صارت مأزومة إلى هذا الحد؟
هل قضية الإرهاب ومواجهة جذوره الفكرية صارت قضية نظام حكم وليست قضية وطن ينزف ووعى يتردى وعقول يتم تشويه ما تبقى بها من وجدانه؟
كان للثقافة المصرية دومًا دور رئيسي فى معارك الوطن وقضاياه سواء فى معركة الاستقلال ومواجهة المحتل أو مواجهة حاكم مستبد أو حاكم يعصف بالثوابت الوطنية كذلك كانت حارسًا للهوية ودافعًا نحو الأمام عبر نضال التنوير الذى شهده القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين ويتحول بعد ذلك إلى جهد فردى من بعض المثقفين والمبدعين.
وكانت السينما دوما مرآة كاشفة لحالة المجتمع وقضاياه كما كانت الدراما هى ديوان الحياة المعاصرة فلماذا تغيب الثقافة عن معركة مواجهة الإرهاب الآن؟ ورغم ما يعلن من أهمية وضرورة استدعاء الفن والثقافة إلا أن الأمر يبدو غير ذلك على أرض الواقع.
فى حقبة تسعينيات القرن الماضى شهدت مصر موجة من الإرهاب والعنف الشديد من جماعات الإسلام السياسى وانتفضت الثقافة بكل مكوناتها تدافع عن الوطن وعن العقل المصرى فانطلقت سلاسل متخصصة مثل «المواجهة» التى أعادت طبع كل كتب مواجهة الظلامية وقدمتها للقارئ بأسعار تكاد تكون مجانية تصل إلى «25» قرشًا وكذلك صدرت سلسلة «التنوير» التى أعادت طباعة أهم ما قدمه المثقف المصرى عبر تاريخه المعاصر فى قضايا التنوير والحداثة ومن بينها مؤلفات محمد عبده وعلى عبدالرازق وفرح أنطون وسلامة موسى وامتد إلى أجيال لاحقة لكتاب مثل جابر عصفور ورفعت السعيد وأحمد عبد المعطى حجازى وغيرهم من قادة التنوير العظماء
وخصصت مساحات فى الصحف المصرية لمواجهة التطرف والرد على دعاوى الإسلام السياسى وتم استكتاب كل الأقلام بما فيها بعض الذين نعتبرهم من المعارضين للنظام للإسهام فى معركة الإرهاب وشهد معرض القاهرة للكتاب عام 1992 واحدة من أجرأ المناظرات الفكرية والتى كانت أحد دوافع جماعات الإرهاب فى اغتيال الدكتور فرج فودة الذى نجح خلال تلك المناظرة التاريخية فى كشف عوراتهم أمام الرأى العام وكانت تلك المناظرة ثم مناظرة نقابة المهندسين بالإسكندرية وراء قرار جماعات الإرهاب بتصفية فودة جسديًا.
ولم يكن فرج فودة وحده هو المستهدف الوحيد فقد كان عدد كبير من رموز الفن والثقافة والفكر ضمن قوائم المستهدفين وبالفعل شهدت تلك الحقبة محاولات عديدة لتصفيتهم لعل أبرزها محاولة اغتيال نجيب محفوظ عام 1995.
ولم تؤثر تلك الوقائع على صلابة عدد من المثقفين والمبدعين ففى عام أعلن النجم عادل إمام تحديه للإرهاب الذى اشتعل فى أسيوط ليذهب بكامل فرقة الفنانين المتحدين ويعرض مسرحية «الواد سيد الشغال» عام 1988 مع بداية موجات العنف التى استمرت عقدين تقريبًا تستهدف مصر.
ومع بداية عقد التسعينيات تزايدت موجة الإرهاب وقرر المبدع الجرئ «وحيد حامد» الاشتباك فى المعركة ويقدم مسلسل «العائلة» عام 1994 من إخراج إسماعيل عبدالحافظ ويقدم المخرج نادر جلال والكاتب لينين الرملى فيلم «الإرهابي» إنتاج نفس العام 1994 من بطولة عادل إمام ويستلهم خلاله مأساة اغتيال فرج فودة.
ولم تتوقف الأعمال الدرامية والسينمائية التى تقدم أعمالاً تتصدى للإرهاب وأفكار الإسلام السياسى - بغض النظر عن التقييم النقدى لها - إلا أنها كانت صرخة ذات أثر إيجابى بالغ لدى المصريين.
ورغم دور المثقفين والفنانين الكبير فى مواجهة جماعة الإخوان المسلمين ووقوفهم ببسالة أمام محاولات أخونة الثقافة ورفضهم لوزير ثقافة قريب من الجماعة وهذا ما تجلى فى الاعتصام الشهير للمثقفين والمبدعين بوزارة الثقافة ومنعهم دخول «علاء عبدالعزيز» الوزير الإخوانى كما كان غضبهم الكبير من قيام الهيئة المصرية للكتاب بطباعة رواية سيد قطب «أشواك» التى صدرت عام 1947 وهذا ما أعطى مؤشرًا خطيرًا لدى المثقفين المصريين.
وكان لاعتصام المثقفين دور هام فى التمهيد لثورة 30 يوينو التى تمكنت من إزاحة مكتب الإرشاد عن حكم مصر.
وعقب الثورة شهدت مصر موجة أشد عنفًا للإرهاب مما شهدته فى نهايات القرن العشرين وصارت المعركة واضحة والمواجهة مباشرة بين الدولة المصرية بكل مكوناتها وبين جماعة الإخوان وحلفائها.
ولم تكن الثقافة والمثقفون على نفس الدرجة ولم يكن الفن - إلا قليلا - فى صدارة مشهد المواجهة.
فقد ظهرت أعمال تتصدى للإرهاب ولأفكار الجماعة يمكن أن نعتبر أبرزها مسلسل «الجماعة» الذى أذيع جزؤه الثانى عقب ثورة 30 يونيو بينما كان جزؤه الأول قد خرج عام 2010 وهو عمل يرصد تاريخ حسن البنا وجماعته منذ التأسيس كتبه وحيد حامد وأخرجه محمد ياسين.
وخرجت أعمال درامية أخرى تتناول الإرهاب وشخصية الإرهابى منها «نسر الصعيد» و«أبوعمر المصرى» عن رواية فخر الدين شكرى «مقتل فخر الدين» كما تناول مسلسل «المعجزة» ظاهرة الارهاب والعنف
وعلى مستوى السينما كان فيلم «مولانا» الذى أنتج عام 2017 للمخرج مجدى أحمد على عن رواية إبراهيم عيسى تحمل نفس الاسم حيث كان هذا الفيلم هو الأبرز والأنضج فى مواجهة أفكار التطرف الدينى.
وعلى جانب آخر فإن ما يقوم به الكتاب والمفكرون من جهد يعد أقل كثيرًا مما يجب وشهدنا وجودًا أكبر للخبراء الأمنيين على حساب وجود فعلى - على المستوى الإعلامى - لكتاب ومبدعين يمتلكون القدرة على مواجهة أفكار الإسلام السياسى بشكل جذرى.
إن المناخ الفكرى المغذى لأفكار التطرف سوف يُنبت أجيالا جديدة بمجرد أن تهدأ القبضة الأمنية وسنظل نعانى من تلك الأزمة طالما غابت تلك الفريضة الغائبة فى عمليات المواجهة وهى التصدى بالفكر والفن والثقافة.