زمن الغزوات مضى.. والرفاق ذهبوا.. ورجعنا يتامى
هل سوى زهرتين أضعهما فوق طاولتك.. ثم أقول سلامًا
سلاما على الفتى، الذى كان يقرض الشعر ويكتب القصة ويوقع بفتيات المدينة الصغيرة فى غرامه من نظرة.. تلك كانت أسطورته!
يردد دائما مقولة صلاح عيسى: «نحن أبناء الفقراء ندعى» لكن عزة نفسه لا تفارقه لحظة، وكبرياؤه غير قابل للمساومة، وكرامته ليست للبيع.. جمل حفظها عن ظهر قلب من فم الشيخ «علي» الأب، حين كان يتفوه بها فى سكون الليل والفتى ينصت.
حكايات من زمن الهزيمة والصمود والانتصار كان يحكيها الشيخ بشغف، ويتجرعها الابن كأنها صنبور من مياه عذبة تغسل روحه فيهيم عشقًا بها.
تلك الظلال التى رسمت نقوشًا على روحه عندما جاء الأب حزينا مكسورا فى الخامس من يونيو عام ١٩٦٧، ليمكث فى حجرته وحيدا يرفض الاختلاط بأحد، حتى الفتى الصغير، ويرحل بعدها بأيام، بعدما ودع الأم وأوصى بالصبي.
ستة أعوام تقص الأم على الطفل، حكايات أدهم الشرقاوي وأبوزيد الهلالي، وتنام بجواره فاتحة جفنيها طوال الليل، حيث خشخشة النخل واهتزاز الباب وصفير الريح، والليل فى غياب الأب يوحدهما.
ستة أعوام يحاول فيها الأب إثبات أنه جدير بالحب، الذى منحه إياه الصبي والمرأة، حتى ناله فى أكتوبر ١٩٧٣، يومها حضن الأب زوجته وابنه حضنًا لم يعتاداه منه من قبل، حيث سقطت دموعه الساخنة على وجهيهما غير مستوعبين، كيف لأسد كذاك أن يبكي؟! وهو الذى طالما ردد أمام الصبي ذلك التعبير الذي ظل الفتى يذكره بينه وبين نفسه، كلما ألمت به الملمات «الرجال لا يبكون»، هل تلك كانت أسطورة الشيخ التى سقطت فى بحر الحنين أم إنه ألم تلك السنوات الست التى حاول فيها أن ينتزع النصر ليقدمه للصبي، تنفيذا لوعده الذى وعده إياه فى لحظات الصمت البعيدة، ليستعيد الشيخ هيبته ويستعيد الابن مكانته بين أقرانه؟!
وعندما كبر الصبي وراح يمزج محمود درويش بالطيب صالح، وأدونيس برشيد بوجدرة، وأمل دنقل بحنا مينا، وشوقى بزيع بعبدالرحمن منيف، وصلاح عبدالصبور بنجيب محفوظ، وعبدالرحمن الأبنودي بيوسف إدريس، وصلاح جاهين ببهاء طاهر، ومالك حداد بجبرا، الشعر بالرواية.
لم يدر بخلده يوما أنه سيفارق تلك الأسطورة التى سكنته طوال سنوات صباه، أن يكون شاعرا، ويمضي إلى حيث كان الشيخ يرغب، فيروي عطش الأم إلى صعود المنتهى.
لكنه الآن يدرك أن النهايات باتت قريبة، وأنه أبعد ما يكون عن خطواته الأولى على أرصفة مدينته الجميلة.
حيث إن كل شيء طازج رطب بطعم النيل، وبريء كوجهها، كانت عذوبة النهر وما تبقى من وجوه الرفاق القدامى، قصص تشيخوف، وأشعار نيرودا، وأغاني فيروز فى المساء، هى كل ما يملك من ذكريات عن مدينته القديمة، مدينة نفرتيتي.
هو العمر قد طال به إذن.. ولا شيء يذكره بتلك الليالي البعيدة سوى الشمس التى اتَّحدت بوجه شاهندة كي تضيء، والطيبة فى عيون داليا وغادة وهى تورق فى ربيع العمر.. وجه أمه ورفيقة عمره.. خالد، حين يرحل كل الأصدقاء، ونور حين ينطفئ فى شوارع مدينته القديمة النهار.
وما زال الفتى يتبع خطى قلبه، يعرف أنها تسكنه منذ كان طفلا، كان ذلك من بعيد، خمسون عامًا أو يزيد، عندما بدأ يردد حروف اسمها بين شفتيه، يحرك مهجته كي تراها ويزحف مع القادمين من النجوع حلمًا بقربها.
حين تنطفئ المرايا، كانت هي النور الذى يأتيه من ألف فج عميق، يتَّحد به ويرقص، يغني، ثم ينام على ذراعيه فى الجهة الوحيدة حيث يرفع رايته للعاشقين، ولا يرى أحدًا سواها.
تأتيه حالمة وشاخصة وناعمة بين حروف الكلام.. وفى المنام.. وعندما يحل المساء.. تشاغبه وتطارحه الغرام.
فى العام السادس والخمسين يحمل الفتى، الذى كان، جسده كهلا يسير بجثة صاحبه فى ختام السباق.. يكرم أيامهما أن تدوس عليها الخيول.
لكنه يبصر حفيده «يوسف»، من بعيد، ظلا فوق المآذن يمسك طرف الهلال وينير سبيله، يعيد طيور النورس إلى شطوط البحر، والمدينة القديمة إلى سكانها، ودفء القلوب إلى العشاق، ويعيد الفتى، الذى كان إلى أسطورته.
وأنت.. أنت ما تزالين شاخصة.. تعبثين بما تبقى من عمر فى وضح النهار.. أنت العرّافة المستحيلة، والساعة الرملية، الأنثى الأزلية، شاهدة العصر، أيقونة العمر، شجرة المانوليا، والطوفان.
فى العام السادس والخمسين يسلم الفتى، الذى كان راحته إليك.. وينام!