الأحداث- الماضية أو القادمة- بالتأكيد تتجاوز جذورها قطعة قماش تخفى الوجه.. سواء دفع الجهل بالبعض إلى ربط النقاب بالدين الإسلامى أو القناع الأبيض المميز لأعضاء أكثر الجماعات وحشية ودموية فى التعبير عن الهوس العرقى والدينى والمعروفة بجماعة «كوكلاكس كلان»، وهى لم تندثر خلافا لظن البعض، إذ ما زالت عدة جماعات منها تمارس جرائمها فى أمريكا.. بل امتد تأثيرها البغيض إلى عدة دول أوروبية. جرائم الإرهاب المتبادل بين التيارات المتطرفة لم تظهر فى المشهد الأوروبى فجأة رغم تصاعد وتيرتها.. إذ بدأت خيوطها فى التشابك والتعقيد نتيجة أعوام من التراكمات الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والثقافية.
أوروبا لم تلتفت إلى أن طبيعة كل تغيير تقترن بثمن لا بد من دفعه، مع تراجع الثوابت وموروث القيم الاجتماعية عن التعايش مع الآخر المختلف والتسامح العرقى والديني، فى مقابل اتساع مساحة اليمين المتطرف الذى يتبنى- وأن لم يكن بشكل علنى مباشر- عقائد فاشية فى إطار صيغة ظاهرها الدفاع عن قومية العرق الأوروبي. هذا الاختلال الثقافى خلق حالة استقطاب حاد اخترق المجتمع الأوروبى بين توجه أعداد كبيرة، إما للانضمام إلى تنظيمات جهادية مثل داعش وغيرها، أو إلى جماعات عنصرية يمينية.. حتى تصاعدت نبرة الهوس خصوصا بعدما أتاحت قنوات التواصل التكنولوجى تحطيم كل الحدود بين العالم. تحول النقاب فى نظر أوروبا من البعد الدينى إلى تمييز اجتماعي.. موقف يتخذه المهاجرون من جهة، وتستغله الجماعات اليمينية التى نصبت نفسها جبهة صد لأى محاولة تغيير فى صورة المجتمع الأوروبي، والانجراف به بعيدا عن الملامح الواحدة التى كانت تشكله، فالنقاب يمثل أكثر النماذج فى الخلط بين كونه مظهرا دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا، بعدما سعت جماعات «الإسلام السياسي» إلى فرضه ضمن عدة مظاهر لاستعراض قوة تواجدها على الساحة عربيا وعالميا، خصوصا مع عدم وجود أى مبرر دينى يفرض إلزام المرأة بزى محدد وإجبارها عليه سواء بالضغط المادى أو المعنوى عن طريق تكفيرها.. بالإضافة إلى ارتباط هذا النهج بنمط سلوكى غريب عن المجتمع الذى وفدوا إليه.
بدهيًا.. الشق السياسى لم يقتصر توظيفه من جانب تنظيمات الإسلام السياسى فقط، على الجانب الآخر نجحت حالة الهوس العرقى لليمين المتطرف من اختراق مفاصل أوروبا السياسية حتى امتدت إلى بعض أعضاء البرلمانات وهى المنابر السياسية الأكثر تأثيرا. صعود الأحزاب والقوى اليمينية أصبح أمرا واقعا فى حسابات المشهد السياسى الأوروبي.. على سبيل المثال لا الحصر، المجر بعد فوز حزب «فيدز» اليمينى بولاية ثالثة فى الحكم، التواجد المتنامى للحزب الديمقراطى المسيحى فى ألمانيا، أحزاب «الحرية» و«الشعب» المتشددة فى النمسا، دخول حزب «ليجا» اليمينى فى التحالف الحاكم لإيطاليا، أما بريطانيا فقد غلب بعض أعضاء حزب المحافظين الحاكم الاعتبارات السياسية عبر الاستحواذ على رضا اليمين الذى لا يمكن قراءة نتائج تصويت البريطانيين على الخروج من الاتحاد الأوروبى «البريكست»، بمعزل عن ربطها بازدياد عدد هذه الكتلة الانتخابية، فى فرنسا لم يتأخر استغلال حزب «التجمع الوطني» اليمينى للمظاهرات التى تجتاح الشارع الفرنسى أسبوعيا لتحقيق مكاسب سياسية مع تأرجح حكومة الرئيس ماكرون الوسطية التى تشهد تراجعا خطيرا فى شعبيتها.. كما امتدت الصورة العامة إلى دول مثل: البرازيل وكولومبيا... وغيرها.
عند إعلان إنشاء الاتحاد الأوروبي، ظهرت ملامح الشق الاقتصادى وهى تبشر بتدفق أنهار العسل واللبن فى شرايين الدول الأعضاء.. مع مرور السنين تحولت الصورة إلى خيبة أمل اصطدمت بها طموحات الشارع الأوروبي. فى البدء واكب قرار توحيد العملة الأوروبية «اليورو» ارتفاع جنونى فى الأسعار، ما انعكس سلبا على الطبقة المتوسطة أو العاملة رغم المكاسب الاقتصادية التى يذكر للاتحاد إنجازها. مع انضمام دول جديدة للاتحاد، أغلبها من أوروبا الشرقية، ظهرت ملامح التباين الكبير بين هذه المجموعة والدول القديمة المؤسسة للاتحاد، أبرزها مشاكل متعلقة بالاستثمارات وهجرة المؤسسات الصناعية خارج نطاق الاتحاد بحثا عن امتيازات اقتصادية وتوفير عمالة رخيصة الأجر مع تفاقم أزمة البطالة، هذا بالإضافة إلى تعرض أوروبا لضغوط اقتصادية نتيجة ازدياد حدة المنافسة مع قوى اقتصادية نجحت فى فرض سيطرتها وشروطها على السوق العالمية. أجواء هذه المآزق الاقتصادية وتفشى البطالة ألهبت مشاعر عداء نتيجة مخاوف مواطنى هذه الدول من منافسة أفواج المهاجرين لهم فى فرص العمل مع قبول أغلب هذه الوفود العمل بأجور أقل. المتاجرة بنشر أفكار اليمين المتطرف لم تغب أيضا عن «بيزنس» أكبر شركات التسويق وفق التقارير التى اتهمت شركة «أمازون» بالاستفادة ماليا من بيع الكتب التى تنشر هذه الأفكار.
أخيرا.. الاعتداء على المعبد اليهودى فى ولاية بنسلفانيا الأمريكية أواخر العام الماضي، الاعتداء على كنيسة فى الفليبين مستهل هذا العام، مذبحة المسلمين فى نيوزيلندا، الاعتداء الإرهابى فى هولندا، سلسلة الاعتداءات المتكررة على مساجد ومصلين فى مدن بريطانيا منذ أيام.. إلى آخر نماذج العنف والعنف المضاد، للأسف متى تكتب كلمة النهاية لهذه الظاهرة البغيضة؟.. الأرجح أن تغير حسابات أوروبية كثيرة مع ازدياد الألغام التى تهدد الآمن والاستقرار فى هذه الدول.