«إنه الاقتصاد، يا غبي» هى جملة جاءت ليس عرضا فى السياسة الأمريكية استخدمت على نطاق واسع خلال الحملة الانتخابية الناجحة لبيل كلينتون ضد جورج بوش الأب عام ١٩٩٢. لبعض من الوقت، اعتبر بوش المرشح الأقوى بسبب خبرته السياسية كرئيس لأمريكا ومعاصرته تطورات سياسية خارجية مثل انتهاء الحرب الباردة وحرب الخليج العربي.
اكتسبت المقولة شعبيتها من جيمس كارفيل - استراتيجى فى حملة كلينتون - وتوحى بأن كلينتون هو الخيار الأفضل لرئاسة أمريكا لأن بوش لم يهتم بالاقتصاد اهتماما كافيا حيث شهد الاقتصاد الأمريكى موجة من الكساد.
ومن أجل اختصار الحملة فى رسالة يوجهها إلى الجماهير، قام كارفيل بتعليق لافتة فى مقر حملة بيل كلينتون الانتخابية فى ليتل روك نصها كما يلي:
التغيير مقابل المزيد من الشيء نفسه.
إنه الاقتصاد، يا غبي.
لن ننسى الرعاية الصحية.
كانت هذه العبارة هى الصيحة التى أطلقها المرشح الشاب كلينتون فى مواجهة خصمه السياسى المخضرم جورج بوش الأب فى الحملة الانتخابية الأمريكية عام ١٩٩٢.
وكان بوش قد انتهى من إنجاز أحد أنظف الانتصارات العسكرية ــ من حيث كفاءة الأداء ــ بإخراج جيوش صدام حسين من الكويت، وأمن بذلك لبلاده مصادر البترول فى الشرق الأوسط مع إرساء قواعد عسكرية أمريكية هائلة فى السعودية والبحرين وقطر، وقبلها بسنة كان قد سقط الاتحاد السوفييتى، وبذلك تحقق النصر النهائى للمعسكر الغربى ــ بزعامة أمريكا ــ على الخصم العنيد فى الاتحاد السوفييتى وشركائه فى دول وسط وشرق أوروبا. وبذلك تحقق ــ أو هكذا بدا ــ النصر النهائى للمعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وفى هذا الجو الغامر من الانتصار التاريخى للولايات المتحدة على مستوى العلاقات الدولية، كان الانطباع الغالب لدى المراقبين هو أن إعادة انتخاب بوش لفترة ثانية هى مسألة مفروغ منها، وأن فرص المرشح المغمور كلينتون، القادم من ولايات الجنوب الفقيرة، محدودة أو ربما منعدمة. ومع ذلك استطاع الشاب كلينتون أن يغير دفة الأحداث، ويوجه الأنظار إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية فى أمريكا وبما يهدد مستوى المعيشة للمواطنين. فالأمر الأجدر بالرعاية هو أوضاع الاقتصاد، فهذا ما يحدد وضع الدولة على مستوى العالم، كما أنه يضمن تحسن الأحوال المعيشية للمواطنين. وبقية القصة معروفة، فقد حقق كلينتون نجاحا فى الانتخابات الأمريكية واستمر لفترتين، كان فيها أحد أهم الرؤساء الأمريكيين.
وأيا كانت سلامة تحليلات كارل ماركس فقد كانت نظرته صائبة عندما أكد أن أهم محددات تطور المجتمعات هى التغير فى ظروف الإنتاج وشكل التكنولوجيا السائدة. ولعل تاريخ البشرية كله هو تاريخ تطور أدوات الإنتاج منذ العصر الحجرى والاعتماد على اللقط والقنص إلى قيام الثورة الزراعية بعد ترويض النبات والحيوان لخدمة الإنسان والإفادة من مياه الأنهار الكبرى، وأخيرا الثورة الصناعية مع سيطرة العلم على مصادر الطاقة وتطويع المعادن، وما ترتب عليها من وضع شبكات اتصال بين مختلف أرجاء المعمورة.
مظاهر تحديث الاقتصاد وتطويره يصاحبها تزايد فى التوترات الاجتماعية والسياسية وغالبا عدم الاستقرار السياسى، ومن هنا، فإذا كان تقدم الاقتصاد هو محرك التقدم، فإن العدالة تؤدى إلى حسن توزيع ثمرات هذا التقدم على الغالبية. وبغير ذلك فلا استمرار ولا استقرار. ولذلك فإن «الكفاءة» و«العدالة» هما أساس التقدم والاستمرار. فلا تقدم أو تحسين فى ظروف الناس بدون «كفاءة» أو اقتصاد سليم وديناميكى، ولكن بدون «عدالة» فإن الإحساس بالظلم ما يلبث أن يوجد بؤر الرفض والمقاومة وعدم التعاون وأحيانا التخريب، وبذلك يضطر النظام القائم إلى تخصيص مزيد من موارده للدفاع عن نفسه أو لشراء الذمم. وبذلك تصبح تكلفة استمرار النظام أكثر من عوائده، وبالتالى ما يلبث أن يفقد النظام القدرة على تحقيق «الكفاءة»، ويصبح عبئا على كل من «الكفاءة» و«العدالة» معا. وهكذا يتضح أن «العدالة» ليست تكلفة على «الكفاءة» بقدر ما هى بوليصة تأمين لاستمرار النظام وتقدمه.
فى المناطق الصناعية الجديدة عرفت الصين خلال الثلاثين عاما التالية أعلى معدلات للنمو فى العالم وزادت تجارتها مع الولايات المتحدة من أقل ٣٥٠ مليون دولارا آنذاك إلى عدة تريليونات من الدولار الآن، وأصبحت الصين ــ أو كادت ــ تصبح القوة الاقتصادية الثانية فى العالم، وهناك من يتنبأ بأنها قد تصبح القوة الأولى خلال عقدين أو ثلاثة. وبذلك أصبحت الصين أهم شريك اقتصادى للولايات المتحدة، وهى تحوز الآن أكثر من نصف أذون وسندات الخزانة الأمريكية المطروحة فى الخارج. هذه باختصار أهم التجارب الحديثة لدول العالم الثالث للحاق بالعالم الصناعى المتقدم. فما أهم الدروس المستفادة؟ ثلاثة دروس.
الدرس الأول: الانفتاح على العالم الخارجى: فى ثلاثة أمثلة (اليابان، النمور الآسيوية، الصين) من الأربعة نماذج المتقدمة، اعتمدت دولها لتحقيق نهضتها الصناعية على الانفتاح على العالم الخارجى.
الدرس الثانى: دولة قوية: فى جميع الأمثلة الناجحة كنا بصدد حكومات قوية ودول صارمة تدرك مصالحها القومية وتدافع عنها كما تدرك أهمية ما يدور فى العالم. وسواء تعلق الأمر باليابان بعد ثورة الميجى أو بدول جنوب شرق آسيا أو بالصين، فإننا نتحدث عن دول تتمتع بإدارة حازمة وتتمتع بسلطات كبيرة على الاقتصاد الوطنى لمنع الانحراف.
الدرس الثالث: اقتصاد السوق: هو أن جميع الدول التى حققت هذه الطفوة الاقتصادية اعتمدت على نظام «اقتصاد السوق»، لكنها ليست السوق المنفلتة بل هى سوق خاضعة لإشراف ورقابة الدولة، وهى أسواق تحكمها القوانين وعادة ما تتمتع بالنزاهة وقدر كبير من الشفافية والمساءلة. فحتى الصين التى ما زالت تتمسك بالحكم الشيوعى، فإنها تطبق نظام «اقتصاد السوق» فى المناطق الصناعية الجديدة.
وماذا عنا فى مصر الآن. لقد قامت فى مصر ثورة شعبية هائلة، ونأمل أن نصل قريبا إلى وضع مؤسساتنا السياسية الجديدة موضع التنفيذ. فهل لدينا رؤية اقتصادية. للمستقبل؟ سؤال يستحق الاهتمام.
من بعض أوراق الأستاذ الدكتور حازم الببلاوى قبل رئاسئه للوزراء.