تحمل العالم أكثر مما ينبغى خلال الأعوام القليلة الماضية. على عكس ما دعى له ابن خلدون وكل من تتلمذ عليه من علماء الاجتماع، العالم لم يظهر استفادة من الحضارة فى كثير من النواحي. يتسبب ذلك فى شعور العالم بالخطر إذا ما توالت عليه أحداث كثيرة متوالية؛ لأنها فى رأى ويل ديورانت أحد أسباب زوال بعض الأمم والأعراق لو تواترت على نحو يتيح لها ذلك.
يضاعف كل هذا من مسئولية الجهات الرسمية عن أبناء بلادها خارج حدود أوطانهم، إذ لم يعد المطلوب مجرد تأمين الأوراق الرسمية، وتنظيم الاحتفالات الوطنية والدينية والدورية التى تجمعهم، ورعاية الجاليات اجتماعيًا وروحيًا. زادت مسئوليات السفارات بازدياد الأزمات، وازدياد تداولها عبر كافة أشكال نشر المعلومات الإلكترونية وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي.
تشبه الظروف التى نشأت فيها السفارات فى الأساس مرحلة تشبه المرحلة التى نمر بها، إذ نشأت فى إيطاليا لحماية تأمين نقل المعلومات وتحقق العلاقات الطيبة بين مدن إيطاليا ذاتها قديمًا. إذ كان لكل مدينة كبرى سفراء لدى المدن الكبرى الأخرى، بشكل ثابت أو سفير واحد يتنقل فى كل المدن الكبرى. نشأ ذلك عن الحاجة لتحسين العلاقات بين المدن فى وقت ساءت فيه هذه العلاقات كثيرًا ودبت فتن التنافس والمؤامرات فيها بقوة.
نستنتج مما سبق، أن السفارات نشأت ضمن ما نشأت لحماية مصالح الدولة، وبالتالى مصالح رعاياها فى الدول الأجنبية عنها. من هنا على كل منا أن يعرف حقوقه فى هذه السفارات حتى لا يتعرض للمشكلات والاعتداءات فى دولة أجنبية وسفارته موجودة لحمايته. إن السفارة ببساطة بعثة دبلوماسية مكونة من عدد من الأفراد يزداد فى أغلب الأحوال مع قدم وتحسن العلاقات بين كل من الدولة المضيفة ودولة البعثة. يرأس هذه البعثة السفير الذى يوجد بشكل مقيم ودائم فى الدولة المضيفة فى مبنى السفارة، وفى بعض الأحيان يطلق اسم السفارة على بيت السفير ذاته، كما يحدث فى بعض دول أمريكا اللاتينية. يقوم السفير بكل المهام التمثيلية لرئيس جمهورية أو ملك بلاده فى الدولة المضيفة، لذا عليه أن يتأكد من سلامة وأمن كل جالية بلاده ويؤمن لهم كافة ظروف الحياة الكريمة المطمئنة فى كل وقت، بل ويتقبل طلباتهم للقائه ودعواتهم لحضور تجمعاتهم العامة فى حدود اللائق فى معظم الأحوال.
أرض السفارة هى جزء من وطن البعثة الدبلوماسية التى تقيم عليها، تسرى عليها كافة قوانين الدولة الأم لها، ويتمتع أفرادها بحصانة دبلوماسية كاملة. متى ما دخل أى من رعايا الدولة الأم لسفارتها تمتع بكل مزايا وجوده على أرضها كمواطن يحمل جنسيتها. لا ينسى الكثيرون منا خضوعهم لامتحانات المرحلة الابتدائية وفقًا للنظام المصرى على أراضٍ أجنبية فى السفارة حين تغير النظام التعليمى فى مصر لتصبح المرحلة الابتدائية مكونة من خمس سنوات فقط، إذ وفرت السفارة المقررات ورعت دراستها فى شكل من أشكال الـ Home Teaching، ومن جهة أخرى يمكن أيضًا لأى مجرم أن يسلم نفسه لسفارة بلده حتى تتم محاكمته وفقًا لقانون بلاده على جريمة ارتكبها، وهو ما تكرر مع بعض الدول الأوروبية ودول أمريكا اللاتينية، وحين تقبل السفارة وجوده يصبح حينها محميًا بقانون بلاده حتى يتم ترحيله ومحاكمته على أرضها وفقًا للقانون المحلى هناك. تقدم السفارات العديد من الامتيازات الأخرى منها ترحيل الرعايا لأراضيهم فى حالة إفلاسهم أو تعرضهم لمشاكل شخصية، مثل حماية بعض الزوجات من اعتداءات أزواجهم لحين سفرهن، وكذا التدخل لحماية بعض الأسر التى تتعرض لتهديدات إرهابية من أى نوع كان.
تعد السفارة وطنك خارج بلادك، لذا قامت مواجهات مسلحة بين الدول عبر السفارات، لعل أزمة رهائن السفارة الأمريكية فى طهران عاصمة إيران تعد نموذجًا لهذا الأمر، إذ قام ٤٠٠ من الطلاب والثوريين فى إيران باقتحام السفارة الأمريكية فى طهران، واحتجاز ٥٢ دبلوماسيا أمريكيا فى مقرها لمدة ٤٤٤ يومًا، بدأت فى الرابع من نوفمبر وانتهت فى العشرين من يناير ١٩٨١م، وهى المدة الأطول لاحتجاز رهائن من هذا النوع فى التاريخ. تمخض هذا الحدث عن بداية عصر من العلاقات المتوترة بين البلدين، ويرى الكثير من المحللين السياسيين، أنه كان سببًا رئيسيًا لسقوط الرئيس الأمريكى الأسبق جيمى كارتر فى الانتخابات الرئاسية، ليتم الإفراج عن الرهائن بوساطة سفارتين أخريين (السويسرية والجزائرية) فى عهد رونالد ريجان عام ١٩٨١م. يوثق الفيلم الوثائقى «سفارة»، المعروض فى الدورة الرابعة والخمسين لـ«أيام سولوتورن» السينمائية فى فبراير الماضي، هذه الأحداث بقوة مثمنًا دور الوساطة السويسرية.
وبناءً على ما سبق يُعتبر سحب السفير، أو بعثة التمثيل الدبلوماسي، لدولة من دولة ما، قطعًا للعلاقات الدبلوماسية بينهما، وحينها تحتاج تلك الدولتين لوسيط من أجل بعض الحتميات الإنسانية التى لا يمكن الاستغناء عنها، كتوصيل الغذاء لمناطق الحصار، كما رأينا لبعض جماعات ألمانيا بعد الحرب.
إذن صارت التحديات أمام السفارات أكبر، إذ زادت مسئولياتها نحو تسليم وتسلم المجرمين، بل ودخلت فى حروب إعلامية كما رأينا فى أحداث مقتل الصحفى السعودى جمال خاشقجي، كما زادت مسئولياتها نحو حماية مواطنيها فى عصر زادت فيه الأخطار المحيطة بهم، والجماعات التى تهدد الكثير فى كل مكان. ما زالت البعثات الدبلوماسية فى كل وقت تضرب مثلًا فى الوطنية والتمثيل المشرف لدولها. وعلينا جميعًا كرعايا يسافرون خارج أوطانهم أن يدركوا كل ذلك جيدًا، وأن يتمتعوا بما تقدمه لهم سفارتهم، فالحماية فى السفارة.