فى المقال السابق طالبنا بتوحيد برامج تدريب الأطباء فى برنامج واحد واضح المعالم وهو برنامج البورد المصري، وفى هذا المقال نناقش ضرورة تكامل الجهات المختلفة التى تقدم الخدمة الصحية للمواطن المصري، خاصة التكامل بين مستشفيات وزارة الصحة والمستشفيات الجامعية.
ولقد اتضح أهمية هذا التكامل فى المبادرتين اللتين قررهما السيد الرئيس، وتكاتفت كل الجهات لإنجاحهما، وهما مبادرة القضاء على قوائم الانتظار ومبادرة ١٠٠ مليون صحة للقضاء على فيروس «سى» والكشف عن الأمراض غير السارية. حيث بدا للجميع أن مصر تستطيع إذا كانت هناك إرادة سياسية، أن تحقق النجاح فى تقديم خدمة صحية جيدة، تلقى قبول المواطن المصري، وتلقى الإشادة من كل المؤسسات الدولية.
وبداية، لكى يتحقق التكامل المنشود بين الوزارات والإدارات المختلفة، لابد من توفر الإرادة السياسية، متمثلة فى المجلس الأعلى للصحة، وهو مجلس سياسات واستراتيجيات، ولابد كذلك من الفصل التام بين مقدم الخدمة، ومراقب جودة الخدمة، وممول الخدمة الصحية، وأن تتبع كل جهة على حدة المجلس الأعلى مباشرة.
وفى معظم دول العالم وخاصة التى تتبع نظام التأمين الصحى الشامل، تنقسم الخدمة الصحية إلى ثلاثة مستويات، وهى الرعاية الأولية والثنائية والثلاثية.
الرعاية الأولية تقدمها الوحدات الصحية الريفية، ووحدات طب الأسرة، ويمكن إضافة المستشفيات المتكاملة، والتى أنفق عليها الوزير اسماعيل سلام مئات الملايين من الجنيهات ولم يتم الاستفادة منها، هذه الوحدات موزعة توزيعًا جغرافيًا يغطى كل ربوع مصر. ويقدم المستوى الأول من ٦٠ إلى ٧٠٪ من كل الخدمة الصحية، خاصة فى البدان التى أولت أهمية قصوى لهذا المستوى باعتباره خط الدفاع الأول والذى يعمل به العدد الأكبر من الأطباء، ولكن للأسف الشديد يظل هذا المستوى ضعيفًا جدًا فى مصر، ولا يؤدى إلا نسبة قليلة لاتتعدى ١٠٪ من كل الخدمة الصحية.
ويجب أن يتم إصلاح هذا المستوى قبل العمل بنظام التأمين الصحى الذى تستعد مصر لانطلاق أول مراحله فى الصيف المقبل، ولن ينجح نظام التأمين الصحى دون تكامل وترابط بين كل المستويات، ويحتاج ذلك إلى استثمارات هائلة لإنشاء مبان جديدة أو إعادة تأهيل الوحدات والمستشفيات القديمة، وإنشاء شبكة ربط إلكتروني، وشراء معدات وتجهيزات حديثة، لكى يصبح على المستوى المنشود، وهنا يأتى دور المجلس الأعلى لتحديد الأولويات وتوفير الدعم المالى المطلوب.
الرعاية الثنائية، وهى الرعاية التى تقدهما المستشفيات المركزية والعامة المنتشرة فى كل مراكز ومدن مصر وتتعامل مع الحالات التى لا يستطيع المستوى الأول التعامل معها، وفى معظم دول العالم يقدم هذا المستوى من ٢٠ إلى ٣٠٪ من كل الخدمة الصحية، وفى مصر كذلك يقدم هذا المستوى نسبة مماثلة وإن كان ينقصه الكثير من الدعم الفنى والتقنى لكى يقوم بدور أكبر ويخفف العبء الملقى على المستشفيات الجامعية.
وفى معظم دول العالم وحتى الدول العربية المحيطة، هناك دور لأعضاء هيئات التدريس فى الجامعات المختلفة للعمل فى المستشفيات المركزية والعامة ولو ليوم واحد أسبوعيًا، وبمقابل مادى وتنسيق واضح المعالم بين الجامعات والمستشفيات التابعة لوزارة الصحة. وإذا كانت هذه الفكرة مطروحة منذ زمن بعيد، إلا أنها لم تحقق النجاح المطلوب لأسباب أهمها، أنها تركت للرغبات الشخصية، ولم يكن لها مقابل مادى مجز، ولذا يجب أن يتم اتفاق بين وزيرى التعليم العالى والصحة على تحديد وقت من كل عضو هيئة تدريس، للعمل داخل مستشفيات وزارة الصحة كجزء من عمله الأصلى كعضو هيئة تدريس بالجامعات المصرية.
ولقد تم حديثًا نقل تبعية عدد من مستشفيات وزارة الصحة إلى وزارة التعليم العالى لتصبح مستشفيات جامعية تابعة لكليات الطب، فى العريش وحلوان والأقصر، والمطلوب الآن هو مساهمة أعضاء هيئة التدريس فى رفع كفاءة مستشفيات وزارة الصحة فى كل ربوع مصر.
ويجب ألا تنسى كل جامعات مصر وخاصة جامعات الأقاليم ومنها جامعة المنصورة، أن المستشفيات التى بدأت بها كانت تابعة لوزارة الصحة والتى تنازلت عنها للجامعات، واليوم، المطلوب من الجامعات إلى أن ترد المعروف وتساعد مستشفيات وزارة الصحة، خاصة فى التخصصات الدقيقة التى لا تتواجد بها.
المستوى الثالث، والمتمثل فى المستشفيات الجامعية (١١٠ مستشفيات حسب آخر إحصاء)، وظيفتها الأساسية هى التدريس لطلاب الطب، والتدريب للأطباء فى الدراسات العليا، والبحث العلمي، ومساعدة وزارة الصحة فى تقديم خدمة طبية رفيعة المستوي. وفى معظم بلدان العالم تكون فى حدود من ١٠ إلى ٢٠٪ من مجموع الخدمات الصحية، إلا أن الواقع فى مصر مخالف لذلك تماما، حيث تقدم المستشفيات الجامعية ما لا يقل عن ٦٠٪ من الخدمة الصحية، وهذا ما يزيد الأعباء ويقلل الجودة فى الخدمات التى تقدمها المستشفيات الجامعية.
ولحل هذه المشكلة، لابد من النهوض بالرعاية الصحية الأولية، والثنائية، لكى تقدما معا الخدمة الصحية بجودة عالية، يرضى عنها المواطن المصري، وتكفيه عن الذهاب إلى المستشفيات الجامعية إلا بتحويل رسمى من المستويين الأول أو الثانى ولتحقيق ذلك لابد من مشاركة أعضاء هيئة التدريس بالجامعات لزملائهم من وزارة الصحة، باتفاق ملزم وبأجر مجز، كما ذكرنا سابقًا.
إن الوضع الحالى وهو ما يشبه الهرم المقلوب، من تقديم ما يقرب من ثلثى الخدمة الصحية المصرية بواسطة المستشفيات الجامعية، هو نتاج طبيعى لقلة الاستثمار فى القطاع الصحى لعدة عقود ماضية، وهو وضع استثنائى لا يمكن أن يستمر طويلاً.
ويجب اتخاذ كل الإجراءات اللازمة للنهوض بالرعاية الصحية، وأن يحدث التكامل والتنسيق التام بين مختلف المستويات، والربط بينها بشبكة معلومات واتصالات جيدة، وتحت مجلس أعلى واحد، لتحقيق المنفعة العامة لهذا القطاع المهم والمعنى بصحة المواطن المصري.