لم أكن فتاةً مدللةً أبدًا، فقد وُلِدْتُ لأبٍ وأمٍّ من قلبِ صَعيدِ مِصر، المنيا؛ حيث كل أمنيات الجَدَّةِ أنْ يكونَ لولدِها ولدٌ، "فأعز الولد ولد الولد" كما يقولون في قرى الصعيد.
كانت أحلام وأمنيات جَدَّتي أن تأتي أمي بولدٍ وليس بفتاةٍ ليحملَ اسمَ أبي.
ويمنحه لأطفاله في المستقبل؛ اعتقادًا منها بـ"أن العلام والفلاح والعمر اللي جاي واللي راح للواد مش للبنية".
فكما كانوا يرددون في الأمثال هناك "لما قالوا ده ولد انشد ضهري واتسند، ولما قالوا دي بنية الحيطة وقعت عليا". كانت كلّ أحلام أمي بحكم البيئة التي فرضت عليها وقتها، أن تأتي بفتى ليجلسَ على العرش، ويكونَ ظهرَ العائلةِ في المستقبل؛ حتى تتخلص من كلمات جدتي التي كانت أشبه بكوابيس تطاردها حتى في منامها، وكنت الفتاة رقم ثلاثة بعد غادة وداليا شقيقتيَّ الكبيرَتيْن، فخيَّمَ الحزنُ وقتها على المنزلِ؛ إذْ كانتْ أمِّي تتمنى أن تُرْزق بفتى وليس بفتاةٍ؛ لذا فلم يقيموا لي سبوعًا، ولم يصنعوا الأرزَ بالحليب، ولا خطَّت أمي فوقي ٧ مرات.
ولكنَّ هذا لم يؤثر على مكانتي في قلبها لحظة، فما زلت أذكر صوتَ أمي، في أول يوم في الدراسة حيث حمام الصباح الدافئ في برد الشتاء القارس، وهي تصيحُ: "عايزة جبنة ولا حلاوة؟"، القميصُ المهندمُ والتنورةُ رَمَادِيَّةُ اللَّوْنِ بكسرتين مضمومتين بفعل المكواة كل صباح، والشرابُ الأبيضُ ذو الكرانيش الدانتيل.
في هذا اليوم ذهبت أنا وأمي للمدرسة وتسلمتني ميس هدى التي ستعطينا كل المواد، شدَّت أمي على يديّ، وقالت: "متعمليش مشاكل ومتعيطيش"، وكانت هنا الصدمة فأنا الفتاة الوحيدة التي لم تبك في الفصل.
دائما ما كانت تتكلم معي أمي عن تفاصيل يومي، ماذا قالت المعلمة؟ ما الذي أخذناه في حصة الإملاء والنصوص؟ حيث كانت تحفظ الشعر وتحب أن تتلوه علينا كلَّ يومٍ.
أذكر في مرة عندما أخذتني للتسوق لنأتي بمشتريات المدرسة، وكنت أعشق قراءة لافتات الفتارين، شردت بفكري لحظة مع ألوان الملابس ووجوه الناس، فإذا بيدي تفلت من يد أمي، وقتها أدركت أنني تائهةٌ ولكني تذكرت كلماتها: "إذا تركتكِ في مكانٍ ما لا تتحركي لا تذهبي مع أحد لا تسمعي كلامَ أحدٍ انتظري في مكانك وسأبحثُ عنكِ حتى أجدَكِ".
هذه هي كلمات أمِّي التي حفِظْتُها وقتْها عن ظهرِ قلبٍ، مَكَثْتُ في مكانٍ يسألني الكبير والصغير: "إنتِي تايهة؟" فأُجيب: "ماما هتيجي وتاخدني"، تلك الثقة التي تملكتني وقتها وأنا لا أعرف حتى كيفية نطق لون القميص الذي ترتديه أمي، فعندما سألني شيخ: مامتك كانت لابسة ايه؟ أجبته: قميص بلون الشاي بالحليب!
حتى جاءت أمي وعلى وجهها ارتسمت ملامح اللهفة ضمتني إلى صدرها بشغفٍ وهيَ لا تعرف أنني كنت واثقة من أنها لن تتركني وحدي أبدًا.
وعندما كبرت أنا وإخوتي في المدرسة، وبدأتْ المواد تبدو أكثر صعوبة، كانت أمي تأتي بالأسئلة والأجوبة من الكتب الخارجية والمراجعات وتسجلها بصوتها على أشرطة كاسيت، وتسهر للصباح حتى تطمئن بأننا سنستمع إليها في ليلة الامتحان، وقبله كانت تقف على باب المدرسة أمام لجان الامتحانات بالمياه المثلجة والعصائر، تنتظر لتراجعَ معنا الإجابات، وهي أمي التي كانت تسهر لتصنع لنا أقراص العجوة بالسمن البلدي في الليالي الباردة التي كان أبي يغيب فيها عن المنزل لأسفار العمل إبَّان حرب العراق وغيرها من التغطيات الصحفية المثيرة.
كانت تجلس لتختار معنا ألوان أغلفة الكراسات والكشاكيل كل مادة بلون مختلف، وتضع اللاصق عليها لنكتب الاسم والمادة ورقم الفصل وكل يوم أحد كانت تتابع برنامج حدث بالفعل الذي يأتي بفيلم أجنبي يحكي قصة حقيقية لتقصها علينا، كانت أمي تحب السينما والمسرح والشعر وتكتب القصة القصيرة وتعشق سعاد حسني، فشاركتنا كل ما تحب واتخذتنا صديقات لها.
وعندما سافرتُ إلى إنجلترا وابتعدت عن عائلتي سنة كاملة للدراسة كانت أمي هي الرفيقة والصديقة فكانت تهون على غربتي، وتتحدث معي في أدق التفاصيل: كيف آكل، كيف أنظف ملابسي، وأين أنام، وهل أجد راحتي في المنزل الذي أعيش فيه أم لا.
كانت تعرف أنني أفتقد كل شيء وأي شيء يتعلق بها وبالأسرة.
أمي هي القارئة الأولى لكتاباتي، وهي المستمعة الأولى لي، هي من آمنت بي عندما لم يصدقْني أحد، وهي من وثقت في عندما أحبطني الجميع، هي الصديقةُ والرفيقةُ والوطنُ.
كل عيد أم وكل أمهاتنا بخير وحب وسعادة.