قصة جديدة فى تاريخ العلاقة بين العجوز والسمراء، تكتب على ضفاف النيل، وتضع قواعد مغايرة لتلك التى فرضتها النظرة الاستعمارية نحو أفريقيا، فبعد تاريخ طويل من الاحتلال العسكرى الأوروبى والسياسات الاستعمارية لاستغلال القارة السمراء، تبدو القارتان متعبتين وتعانيان آثار جشع وطمع إنسان أوروبا الأبيض فى ثروات أخيه الأسود.
صحيح أن العجوز استفادت كثيرا من نهب وسلب ممتلكات السمراء، سواء بالسرقة المباشرة فى زمن الاحتلال العسكري، أو الاستغلال والابتزاز، والاحتيال بعد ثورات التحرر الأفريقية، من خلال سياسات استعمارية جديدة، قامت على قاعدة فرض الحلول الأوروبية للمشكلات الأفريقية والعمل على تغذية الصراعات العرقية والطائفية، بهدف خلق اضطرابات سياسية واجتماعية، تجعل الدول الأفريقية خاضعة طوال الوقت لأطماع ونزوات أوروبا، إلا أن هذة النظرة الاستعمارية ذاتها كان لها تداعياتها السلبية على استقرار وأمن واقتصاد القارة العجوز، فبسببها لم تقم قائمة لاقتصاديات أفريقيا، وعم شعوبها الفقر فخرجت فى موجات متلاحقة تسلك دروب الهجرة غير الشرعية لتهدد استقرارها وأمنها الاجتماعى والاقتصادى الذى سيمتد حتما إلى استقرارها السياسي.
ظاهرة الإرهاب كانت أيضا إحدى نتائج سياسات أوروبا الاستعمارية ونظرتها لأفريقيا ومكونها العربى فى الشمال،، متداخلا مع الصراع العربى الإسرائيلي، وأصبحت تشكل تهديدا، ليس فقط لأمن واستقرار القارة العجوز، وإنما لقيمها التى تشكلت واستقرت عبر قرون، وهو ما يجسده اليمين الأوروبى المتطرف الذى بات يشكل مرادفا لداعش وجماعات الإرهاب الإسلامية، بتبنيه أفكارا متطرفة، وممارسته مختلف صور الإرهاب والعنف الدموي، التى يحاكى فيها تنظيم داعش وجماعة الإخوان الإرهابية، من حيث انتهت باعتمادها على ما يسمى الذئاب المنفردة.
وفى رأيى ما لم يتم منع تمدد تيار اليمين المتطرف فى أوروبا، بمحاصرته سياسيا وفكريا ستمتد تهديداته فى مرحلة ما إلى المجتمع الأوروبى ذاته.
دولة 30 يونيو أدركت أن استمرار شكل وطبيعة العلاقة القديمة، بين أوروبا وأفريقيا من ناحية وبينها والدول العربية من ناحية أخري، يعنى استمرار تهديد جماعات الإرهاب والفوضى لاستقرارها رغم كل ما تبذله من جهود لمحاربتها أمنيا وسياسيا وفكريا، لذلك كان لابد من استراتيجية جديدة تعيد بناء تلك العلاقة على قواعد وأسس حديثة، عمادها الندية والمصالح المتبادلة والتعاون فى وضع استراتيجيات وسياسات مواجهة التهديدات المشتركة، غير أن استراتيجية من هذا النوع تفرض على الدولة المصرية إعادة صياغة رؤيتها لدوائر علاقتها الخارجية الثلاث التى وضعتها خلال الحقبة الناصرية، وهى الدائرة الإسلامية والعربية والأفريقية، حيث تم تحديد تلك الدوائر فى سياق نظام عالمى تتشاطره قوتان عظميان (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) وفى ظل اندلاع ثورات عربية وأفريقية ضد الاستعمار الأجنبى وهو ما فرض على الدولة المصرية منهج تعاملها مع تلك الدوائر وطريقة التحرك داخل أطرها.
اليوم وقد شهد النظام العالمى تغييرات جذرية، وباتت مشكلات مثل التطرف الفكرى والإرهاب والهجر ة غير الشرعية تمثل تهديدات مشتركة لأعداء الأمس على حد سواء أصبح هناك فرصة لالتقاء الجميع عند نقطة واحدة.
هنا أضافت الدولة المصرية إلى دوائرها الحيوية الثلاث الدائرة الأوروبية، وأبدعت آليات عمل جديدة، من شأنها الوصول إلى مرحلة دمج كل تلك الدوائر فى إطار التعاون، من أجل مواجهة المخاطر المشتركة، عبر جسر الندية والمصالح المتبادلة الذى ربما ساعدت تلك التهديدات على الوعى بوجوده.
استراتيجية عمل الاتحاد الأفريقى التى أعلن عنها الرئيس السيسى مع توليه رئاسة الاتحاد، والقمة الأوروبية العربية التى عقدت فى مدينة شرم الشيخ قبل بضعة أسابيع ومنتدى أسوان للشباب العربى الأفريقي، ثلاث فعاليات انعكست فيها رؤية الدولة المصرية الجديدة تجاه دوائرها الحيوية.
جوهر استراتيجية الاتحاد الأفريقى الاعتماد على الدولة الوطنية فى حل معالجة مشاكل القارة ودولها بحلول أفريقية خالصة وعدم السماح بفرض حلول خارجية من جانب شركاء التنمية سواء كانوا دولا أو منظمات تمويلية أو شركات عالمية.
وفى القمة الأوروبية العربية رفعت شعار الاستثمار فى الاستقرار أى أن استقرار أوروبا بات رهنا لتنمية الدول العربية ومواجهة الفقر والحل العادل لكل قضايا الشرق الأوسط وفى القلب منها القضية الفلسطينية، وإنهاء الصراعات فى اليمن وسوريا وليبيا، لدرء مخاطر الإرهاب والهجرة غير الشرعية والعمل على ازدهار اقتصاديات أوروبا من خلال توسيع استثماراتها فى برامج ومشاريع التنمية العربية.
توقيع الاتحاد الأوروبى على بيان شرم الشيخ مع الدول العربية بمكونها الآسيوى والأفريقي، يعنى إدراكه أن جوهر الرسالة المصرية التى تكررت على لسان الرئيس السيسى خلال الفعاليات الثلاث، فى دعوته المباشرة (العمل سويا على أساس التعاون لا التنافس).
ذلك أن تعاون أوروبا مع الدول العربية والأفريقية سبيلها الوحيد للاستقرار والاستمرار فى عملية النمو بتعظيم استفادتها عبر ضخ المزيد من الاستثمارات لتحسين ظروف الحياة وزيادة فرص العمل، ورفع كفاءة ومهارة شباب أفريقيا والعرب، الذين تحتاجهم أوروبا كأيدى عاملة، تسافر إليها داخل أطر التعاون والتنسيق الشرعية والقانونية.
وجاء منتدى أسوان للشباب العربى والأفريقى ليجسد دمج الدائرتين العربية والأفريقية من خلال شبابهم، وليقدم ترجمة عملية لرؤية ومنهج الدولة المصرية لما أعلنته من أسس وركائز للعمل فى جميع المنتديات، وتكفى هنا الإشارة إلى توصيتين فى البيان الختامى للمنتدى أولاهما تشكيل لجنة من الشباب العربى والأفريقى لصياغة رؤية حديثة ووضع تصور علمى وواقعى للتكامل العربى والأفريقى وثانيتهما تكليف لجنة مماثلة لوضع رؤية لمواجهة الاستقطاب الفكرى والتطرف والعنف.
وفى رأيى أن هاتين التوصيتين تمثلان تجسيدا عمليا لإيمان الدولة المصرية الراسخ بقدرة الشباب على الفعل الإيجابى وإيجاد الحلول المبتكرة لقضاينا الشائكة، وتأكيدا على أننا الأقدر على حل مشاكلنا.
الرئيس أثناء كلمته فى ختام منتدى أسوان كشف للعالم المنهج الذى تتبناه الدولة المصرية فى سياستها الخارجية حين دعا الشباب للأخذ به قائلا «اجعلوا الحوار وقبول الآخر دستوركم والإنسانية شريعتكم، والعمل منهجكم».