لم ينس الشعب المصرى ثورته الأولى، والتى خرج فيها جميع أطيافه من نساء وأطفال، وطلبة وكبار، وقساوسة وشيوخ، هى الثورة الملهمة لكل الثورات التى جاءت بعدها، هى ثورة ١٩١٩ والتى خرجت فى مطلع القرن العشرين، والذى شهدت نهضة على كافة المستويات الأدبية والفنية والسياسية.
كما ظهر العديد من الأسماء التى لمعت قبل الثورة وبعدها، فلن نستطيع أن نغفل الإبداع الذى واكب الثورة من أعمال مسرحية وأغان عبرت عن ملامح الوطن، وأعقب ثورة ١٩ عشرات الكتب والأبحاث العلمية التى أرخت للثورة، وتحدثت عن مذكرات الجهاز السري، والكتاب الممنوع، وحكاية الشيخ يونس القاضي، وهو المعروف بكاتب وزجال وصحفى ثورة ١٩ للدكتور إيمان مهران، والذى صدر منه طبعة خاصة بمناسبة مرور مائة عام على الثورة.
وهو الكتاب الذى يمكن تصنيفه من كتب السير الذاتية للرواد، لكنه يُعد وجهًا آخر من أوجه ثورة ١٩١٩ وهو حياة الفنانين والأدباء الذين عاصروا ثورة الشعب. وتقول الدكتورة إيمان مهران «بنت النيل» إن حكاية الكتاب بدأت باتصال تليفونى من أحد أقاربها بأن هناك وثائق قد تم سرقتها من منزل الشيخ يونس أحد جدودها، وأن الوثائق أُخذت بحجة النشر، وهو ما جعلها تشعر بأن جزءا مهما من التاريخ قد سرق.
وتابعت، أنها استغرقت فى جمع وتحقيق ودراسة الكتاب لأكثر من ٦ سنوات، ما جعلها تسافر إلى فرنسا، للحصول على بعض من تلك الوثائق باعتبارها أحد أفراد عائلة الشيخ يونس، مشيرة إلى أن الطبعة الأولى من الكتاب صدرت فى عام ٢٠٠٤ وطبعة أخرى فى عام ٢٠١٢، وقامت الدكتور نبيلة إبراهيم بعمل المقدمة للكتاب والتى قالت فيها: «إن صاحبة الكتاب قد قامت بجهد فردى فى كل ما كتبته حول الأغنية العربية وهو جهد تشكر عليه، خاصة فى غياب الجهاز الرسمى الذى ينبغى أن يتولى مسئولية الحفاظ على ذاكرة الأمة على نحو متكامل». وهنا نجد أننا أمام حكاية الشيخ يونس، والذى أهمله التاريخ وعلاقته بثورة ١٩١٩، وكيف استطاع عن طريق أغانيه ومؤلفاته المسرحية التى أشعلت حماس الجماهير وساندت الثورة، الجميع يعرف نشيد بلادى بلادي، والذى ينسب دائمًا للشيخ سيد درويش، ولكن من هو مؤلف هذا النشيد، ليكون معبرًا عن ثورة ١٩١٩ فتعود المخطوطة التى كتبت بخط يده لتثبت ملكيته لهذا النشيد، والتى تم تسجيلها بالمحكمة المختلطة بالقاهرة، بتاريخ ٢٦ يناير ١٩٢٣ والذى وقعه بمحمد يونس القاضي، مؤلف أدوار وبشركات مختلفة، ومحرر أزجال اللطائف المصورة، وكان السبب فى تسجيل هذه المؤلفات، هو إنشاء جمعية المؤلفين والملحنين واتفاقها مع جمعية الناشرين فى باريس، مما جعل مؤلفى وملحنى الأغانى يجمعون إنتاجهم ليسجل فى الجمعية بعد ذلك، وكان التوثيق فى المحكمة هو وثيقة الملكية التى استند لها الشيخ يونس وأبناؤه من بعده حيث يحصلون على حق الأداء العلنى عن هذه الأغاني، ومنها نشيد بلادى بلادي، والتى غناها عدد كبير من المطربين ومنهم «الست تودد، ومحمد بهجت، وسيد درويش».
ويرجع تأليف النشيد بمناسبة عودة سعد زغلول من المنفى، وكان أكثر الأناشيد الوطنية شهرة فى عام ١٩٢٣ والذى اختاره الموسيقار محمد عبدالوهاب فى عام ١٩٧٨ ليكون النشيد الوطنى عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل ليصبح بعدها النشيد الرسمى للبلاد.
وكان للأغنية دور كبير فى إدخال روح الثورة ضد الإنجليز، وهذا ما تجلى فى مؤلفات القاضى، وسرعة انتشارها على ألسنة المصريين من فرط قربها من الروح المصرية الصميمة ومحليتها، سواء من ناحية الكلمات أو الألحان، والتى ظهرت جليًّا حينما تم نفى سعد زغلول، وأصدرت سلطة الاحتلال مرسومًا منعت فيه تداول اسم «سعد زغلول، وهو ما جعل الشيخ يونس القاضى ينظم أشعارا احتوت على كلمة «سعد» و«زغلول» فى أغلب إنتاجه الفنى منذ عام ١٩١٩، والتى خرجت لمؤازرة الزعيم سعد زغلول فى منفاه، هى أغنية «يا بلح زغلول».
ففى ٨ مارس عام ١٩١٩ تم نفى الزعيم سعد زغلول وزملائه إلى جزيرة مالطا بالبحر الأبيض المتوسط، وهم حمدى الباسل، ومحمد محمود، وإسماعيل صدقي، ووقتها كان يشغل الشيخ يونس القاضي، منصب رئيس تحرير جريدة «مصر» السعدية الناطقة بلسان القبط والمسلمين فى حزب الوفد، وذلك حسب ما رواه الشيخ يونس القاضى نفسه لنجل شقيقه «عبد الرازق فرغلي»، فى وقت مرضه، أنه ألف فى هذه الفترة مئات الأغانى والأزجال الصحفية وكان أكثرها انتشارًا هى أغنية «يا بلح زغلول»، وأهو دا اللى صار وآدى اللى كان»، وشال الحمام حط الحمام.. وغيرها، كما أنه كان يعمل على إدراج اسم سعد والقضية وزغلول فى النصوص سواء كانت التى تغنى أو الممثلة للتذكير بشكل مستمر بالقضية المصرية، رغم إعلان السلطات البريطانية قرارًا بجلد من يكتب أو يذكر اسم هؤلاء الزعماء المناضلين، كما تم إصدار قرار بالحبس لكل من يثبت عليه ذلك.
وهنا نسترجع معًا كلمات بعض تلك الأغانى التى تحايل بها المصريون على قرار سلطات الاحتلال «يا بلح زغلول/ يا حليوة يا بلح/ يا بلح زغلول/ يا زرع بلدى /عليك يا وعدي/ يا بخت سعدي/ زغلول يا بلح.. وعن فراق سعد ورفاقه فى المنفى جاءت الأغنية لتقول «يا روح بلادك/ ليه طال بعادك/ تعاصون بلادك/ زغلول يا بلح/ سعد وقال لى / ربى نصرنى / وارجع لوطني/ زغلول يا بلح».
أما أغنية أهو دا اللى صار فكانت صفعة أخرى للاحتلال والتى كانت تدعو للثورة ضد الاحتلال وتقول كلماتها أهو دا اللى صار وادى اللى كان / مالكش حق تلوم عليه/ تلوم عليه ازاى يا سيدنا وخير بلادنا ماهوش فى إيدنا / قولى عن أشياء تفيدنا/ وبعدها لوم عليه/ ولم يفوت الشيخ يونس القاضى ذكر اسم سعد زغلول فيها حيث حمل المقطع الأخير من الأغنية اسمه ويقول «مصر يا أم العجايب/ سعد أصيل والخصم عايب/ خلى بالك م الحبايب دولا أنصار القضية». أما أغنية شال الحمام، والتى كانت بمثابة تحدى للفنانين فى استعمال اسم سعد زغلول حتى بعد صدور قرار السجن، وقد استعملها ضمن صياغه الأغانى العاطفية والفكاهية أو الفلكلورية، وجاءت أغنية «شال الحمام» والتى جاءت كالتالى «شال الحمام حط الحمام/ من مصر لما للسودان/ زغلول وقلبى مال إليه/ أنده له لما أحتاج إليه/ يفهم لغاه اللى يناغيه/ ويقول حميهم يا حمام/ عشقك ليل غيتي/ وحبهم من قسمتي.
ونجد هنا أن الشيخ يونس القاضى قد نجح بجدارة فى استخدام الموروث الشعبى فى نظم الأغانى السياسية، والتى لا يمكن أن تطالها يد الاحتلال والرقابة الإنجليزية، فهى فى ظاهرها كانت واضحة أنها مناجاة مع الحمام، بينما فى حقيقتها ترسخ مفاهيم الترابط بين مصر والسودان والصمود أمام المستعمر ومساعدة الزعيم الذى يحمى البلاد.
وهناك العديد من الأغانى الوطنية مثل يا عزيز عيني، ويا ناس مرادى أشوف بلادي، وياست مصر ومصر، ويا أمى ليه تبكى عليّ، ويا مصر وأفاكى زمانك، واحنا الجنود، وحب الوطن فرض عليّ، واستمر الشيخ يونس القاضى فى نظم الأشعار والأزجال من خلال أعماله المسرحية، والتى كانت تفجر الثورات، عقب عرضها وهو ما جعله معرضًا للاعتقال من قبل الاحتلال، حيث قامت باعتقالات عدة مرات، لأن مسرحياته تحتوى على مضمون سياسي، وهى تحمل فى طياتها كل معانى الوطنية، بالإضافة إلى سهولة انتشارها وسط المصريين البسطاء وقرب لغتها من لغة الحياة اليومية، والتى كانت ضد الاحتلال والخديو على حد سواء.
ووصلت هذه الاعتقالات إلى ١٩ مرة وكانت آخرها عندما خرج المصريون عقب انتهاء أحد العروض المسرحية إلى الشوارع فى مظاهرات بدأت من شارع عماد الدين لباقى أحياء القاهرة.