.. ومن «طائر الشمال» للمفكر السكندرى المهاجر محمد عبدالمجيد نقرأ:
فى حادثةٍ غريبةٍ من نوعها لا تتكرر فى تاريخِ الخليقةِ إلا مرةً واحدةً، التقىَ الموتُ والحياةُ علىَ غير مَوعدٍ. لـَـمْ يتصافحا، ولـَمْ يتعانقا، لكنَّ الفضولَ دفعهما إلىَ حوارٍ التقطناه عن قُرْبٍ منهما!
الموت: مالـَـكِ تسيرين مُختالة كأنَّ الروحَ باقيةٌ إلىَ يوم الحَشْر؟ كلما رأيتكِ، شاهدتُ الغرورَ مُجَسَّدًا، ولمحتُ ريشَ طاووسٍ ينتفضُ من بين جنبيك، وسمعتُ صوتًا به ثقة وثقل وثقال، فذهب الظنُ بى أنْ لا نهاية بعد مغادرة المهد، كأنَّ اللحدَ لا وجود له!
الحياة: أنتَ مرة أخرى! تتجهم للناس كلما ابتسموا لي، وتتوعدهم كلما بدتْ نواجزُهم من الضحك والسعادة، وتأتيهم بغتة بعد كل مأمن يزيدهم حُلمًا علىَ حُلمٍ.
تحصد أحيانًا فى احتفالات بهيجة شعوبا وقبائل، وتستمتع بالأعاصير، وتتلذذ بالكوارث، وترقص طربا للأوبئة!
أتذكر أنكَ تحالفت مع موج البحر وطلبت الإسراع فى ابتلاع الباخرة تيتانيك، فكان البحر والظلام والجليد والرعب يزينون فى عينيك صرخات المئات وهم يغرقون، فبدا يومَ عيدٍ لكَ ولدودِ الأرض و.. أسماك البحر.
الموت: أنتِ الباطلُ وأنا الحق. أنتِ الخداعُ وأنا الواقع. أنتِ تؤلمين وأنا أخفف تلك الآلامَ أو أزيلها. أنت القسوةُ عليهم وأنا أحتضنهم فى باطن الأرض أو حوادث الطائرات أو القطارات أو الطرق أو الحروب أو الزلازل.
أنتِ لا تعبئين بالمرض ولو صرخ مريض لنصف حياته، فأنت ستطيلينها ليزداد عذابُه، وأنا أنهيها فى غمضة عين أو.. أقل!
فى لحظات اليأس التى يمر بها بنو البشر يستغيثون بى لكى أحصدهم، ويحلمون بيوم قدومى لتخليصهم من مُرّ العيش وشظفها، وصعوبة التحَمُّل، ثم يشاهدونكِ تضحكين وتسخرين وتتوعدينهم بطول العُمر.
فى ردهات المستشفيات وفوق أسِرّتــِـها يتمنى كثيرون زيارة خاطفة مني، وأنت تتمسكين بمرضى لا شفاء لهم منه، وبمن بُترت أعضاء فى أجسادهم أو أصابهم الشلل أو الربو أو الزهايمر أو السرطان حتى أن أطباء كثيرين اعتادوا على أصوات المتوجعين فأصبحوا من أنصار «الموت الرحيم» وانضم إليهم أقرباء وأحباب المريض.
الحياة: أنا أتبع سُنـَّـة الخلق، أى الروح فى الجسد، والنبض فى القلب، والدم فى الشريان، والحواس فى أماكنها، ولست مسئولة عما يصيبها من سقم وخلل وضعف ومرض. بدونى ما وجدت لك عملا، ثم إنك تمثل العقوبة القصوى على الإنسان.
أنت تأتى متخفيا، وتختلس النظرة، وتقبض الروح عندما يكون الأمل بارقًا، والحبيب ينتظر حبيبه، وأحضان الأطفال دافئة لاستقبال الذى غيـَّـبته أنتَ عنهم.
أنت تمد أذرعك المخيفة فى كل الكائنات، حتى الحيوانات الأليفة فى عمق الغابة تخشاك لأنك تأتيها فى مخالب حيوانات مفترسة، فيغدر ضبع بعصفور صغير، ويلحق ذئب بسنجاب جميل فيمزقه بأنيابه قبل أن يلتهمه، ويزحف تمساح وفى دقائق معدودة تكون معدته قد أتخمت من ضحايا ظنوا النهر آمنا لهم.
أنا الذكريات الجميلة التى تمسحها أنت، وأنا عبق الزهور، وزقزقة العصافير، ولهو الأطفال وهم يتصايحون فتضحك معهم الدنيا.
وأنا الرسالات السماوية التى تتنزل على الأنبياء ليشكر الناس رب العباد على نعمته إياهم بي، وأن الكتب المقدسة تملأ الدنيا حكمة وأملا وبشائر.
الموت: فلسفتكِ لا تساوى عندى حبة رمل منسيّة على الشاطئ، والكتب المقدسة أيضا تأمرنى أن أبذل جهدى لخصوم أنبيائها، والرسالات السماوية كلها استعانت بى للتخلص من غير المؤمنين بها، وعندما أعمل أوفر تايم لقبض الروح يكون الدين غالبا بالقرب مني، فالحروب الإسلامية والمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها ظلت على مدى التاريخ تعطينى الفرصة للعمل دون توقف.
إيمانك بعدالة السماء لا يقل عن إيمانى بها، وقناعاتك بأن الحياة هى الحب لا تصمد أمام يقينى بأنني، الموت، أمثل الحب سواء حضرت أم كان غيابى حاضرا. الحياة: أراك تتوهم أنك صاحب رسالة، وأنك لو زرت الملايين فى صورة طاعون فأنت بابا نويل توزع هدايا على الجميع، وأنك تفلسف نزع الناس من صدور أحبابهم كأنها رسالة عشق لظلمة القبر. لولاى لما كان لهذا الحديث بيننا أن يرى النور، فأنت تمشى فى الأرض كأنك مصّاص دماء، وأنا أمشى الهوينا فأتغزل فى الكائنات الحية الجميلة والقبيحة على حد سواء.
عندما يفترس الإنسان أخاه يستعين بك، فإذا لم يستطع، رفع يديه إلى السماء لكى ترسلك فورا فى صورة مرض أو حادث أو سكتة دماغية أو قلبية.
الموت: هذه خزعبلات الأحياء، وخرافات من لم تهرب الروح منهم بعد، لأننى الحقيقة الوحيدة التى يحاول المرء الهروب منها فلا يجد مفرا من الارتماء فى أحضانى يوما ما!
تكذبون على الأحياء برسم صورة مشوهة عني، حتى المقابر الجميلة والهادئة والمسكونة بأمواتٍ لا يؤذون البشر تحاولون تنفير الناس منها، رغم أن الأحياء هم الفزع الأكبر، وهم الذى يستدعوننى كلما كره بعضهم بعضا. لو لم يكن حُب الطغاة لكِ جامحا ما حصدتُ أنا أرواح الشباب والجنود والمعارضين. أنتم تستدعوننى ليلا ونهارًا فى نزاعاتكم الحمقاء، ثم تلوموننى على جَدّى فى العمل، واستجابتى لطلباتكم الـمُلـِحَّة فى أن أكون ضيفا عليكم ثم تزعمون بأننى ضيف غير مرغوب فيه.
لم يدر بذهنى قط أنْ أتسبب فى قبور جماعية، ولكن الحياة التى مـُـنِحتْ لكم هدية رفضتموها فى القصور، وبنيتم بيوت الضيافة، سجونا ومعتقلات وأماكن فقر وسموما فى المياه والأرض الزراعية. أنا الموت، أشرف من الحياة، ولا أخجل من عملي، ولكن ينبغى أن تخجلى أنتِ من الفوقية المتغطرسة التى تجعلك تظنين الموت قبيحا والحياة بهيجة.
الحياة: قل ما تشاء، لكننى سأظل أنا مركز الكون، وتمنيات كل من حصدت أنتَ أحبابَهم أن يعودوا مرة أخرى ليعيشوا بين ظهرانيهم خالدين فى الأرض ثم الخلود الأخروي.
