خصوصية الاحتجاجات الشعبية التى اندلعت فى الجزائر كشأن داخلى لا تلغى فى ذات الوقت عناصر الربط مع المشهد العربى العام ومصر تحديدا. الصلة التاريخية ترسخت عبر الدعم المصرى للمقاومة الجزائرية حتى تحقق لها الانتصار بإعلان استقلال الجزائر من الاستعمار الفرنسي.. ثم مرورا بكل محطات تاريخ هذه الصلة الوثيقة، ومؤخرا بحكم تولى مصر رئاسة الاتحاد الأفريقي. من البديهى أن تثير الاحتجاجات الجدل حول المخاوف والتحذيرات بالنظر إلى واقع حال تجارب مريرة عاشتها المنطقة خلال الأعوام الماضية تمثل تحديا كبيرا أمام الشارع الجزائرى والقوى السياسية، بل إنه يحسم توجيه ضربة ثالثة للتنظيم الدولى لجماعة الإخوان.
التنظيم الدولى تعرض خلال الأسابيع الماضية إلى مجموعة هزائم مخزية مع فشل محاولاته تنظيم وقفات ضد مصر، الأولى خلال انعقاد دورة المجلس القومى لحقوق الإنسان فى مقر المنظمة بجنيف ومناقشة وضع حالة حقوق الإنسان فى مصر.. والأخرى السبت الماضى حين فشل التنظيم أيضا فى حشد وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض لمنع تنفيذ أحكام الإعدام فى إرهابيى ميليشيا جماعة الإخوان. السيناريو الخبيث تكررت مشاهده سريعا فى الجزائر ليبدأ استغلال الاحتجاجات السلمية واختراق أعضاء تنظيم الإخوان فى عدة لقطات تكشف عن وجودهم بوضوح داخل المظاهرات. الجدير بالذكر أن التيارات الدينية المتطرفة فى الجزائر تحظى بتأثير كبير، خاصة وقد سبق خلال التسعينيات حدوث صدامات عنيفة بين الحكومة الجزائرية وهذه التنظيمات. كان متوقعا صدور أول رد فعل على قرارات الرئيس بوتفليقة من حركة مجتمع السلم- أكبر الأحزاب الإسلامية- فى صياغة لم تحمل أيضا أى مفاجأة أو تجديد حين وصفت القرارات بأنها لا ترقى إلى طموحات الشعب، كما هاجمت المعارضة «المدنية» نتيجة عجزها عن التوافق للوصول إلى رؤية سياسية كاملة لآليات الانتقال السياسى تحقق الوصول إلى حلول تضمن التوازن بين مطالب الشارع وفرض خطوات محددة يتم وفقها الانتقال إلى الجمهورية الجديدة. النتظيم الدولى بالتأكيد سيتلقى ضربة قوية حين يفشل فى إبقاء حالة الفوضى والحراك الشعبى بكل عفويته التى قد تنجرف إلى التخريب، وهى فرصة التنظيم الذهبية لإعادة بسط نفوذه على المشهد، إذ تمثل الجزائر فى أطماعهم الخطوة المقبلة لنشر الفوضى فى المنطقة العربية.. فالشىء المؤكد الوحيد وسط أجواء ما زالت تنذر بالمخاوف، هو تمادى الأحزاب الإسلامية فى رفض قرارات بوتفليقة والإصرار على إبعاد أى دور للجيش فى التجاذبات السياسية فى محاولة لإجهاض أى مبادرة توافق إذا لم تتمكن من تحقيق الاستحواذ على المساحة التى تطمع بها وفق سيناريو عام تكرر فى بعض دول المنطقة.
التحدى الأكبر أمام الأحزاب «المدنية» وقوى المعارضة يكمن فى التمهل لدراسة مقترح الندوة الوطنية الذى ورد ضمن قرارات بوتفليقة قبل التسرع بالإعلان عن مقاطعتها، وما قد يحمله هذا الموقف من مخاطر مستقبلية فى حال التقاء المواقف بين المعارضة والتيارات الإسلامية المتطرفة الساعية إلى بتر الحلول التى تقطع الطريق أمام سيطرتها على المشهد الجزائرى ذلك عبر تغدية الاحتجاجات بعناصرهم المشبوهة. لا جدال حول حق المتظاهرين المطالبة بتداول السلطة تحديدا مع الحالة الصحية الحرجة للرئيس الجزائري.. شرط أن تضع قوى المعارضة فى اعتبارها عواقب التصعيد إلى مرحلة الخروج عن السيطرة التى سيصعب التراجع عنها، وتتنبه إلى وضع ضوابط حاسمة تفصلهم عن التجارب السابقة عبر التوصل إلى رؤية محددة أساسها تنظيم قوى المعارضة «المدنية» وضبط الشارع بعيدا عن تفكيك المؤسسات أو القواعد التى تقوم عليها الدولة. البيان الصادر عن أكبر تجمع للمعارضة منذ بدء الحراك الشعبى اتفق على تأجيل الانتخابات فى ظل الظروف الحالية حرصا على استقرار ووحدة الجزائر.. وهو ما قد يشكل نقطة التقاء مع دعوة بوتفليقة لعقد ندوة وطنية تحت إشراف لجنة انتخابية مستقلة تتولى التنظيم الدستورى وتحديد تاريخ الانتخابات الرئاسية المقبلة.
الحصار الشعبى والسياسى الذى يحيط الرئيس الجزائرى نجح فى غلق جميع منافذ المناورات والمراوغات السياسية.. وهى إشارات ألمحت إليها تصريحات الدبلوماسى المخضرم الأخضر الإبراهيمي، الذى تشير الشواهد إلى ربط اسمه بمستقبل العملية السياسية فى الجزائر، مؤكدا التزام بوتفليقة بالقرارات التى طرحها على الشعب، كما حذر الإبراهيمى من التسرع فى إجراء خطوات التغيير على حساب أمن واستقرار البلاد.
أخيرا.. المشهد الجزائرى ما زالت تحيطه الأسئلة أكثر من الأجوبة..المخاوف أكثر من الأمنيات حول التزام القوى والأحزاب المدنية ببناء نظام سياسى جديد بدلا من إغراق نفسها فى دوامة هدم أركان نظام سابق.. الأمر الذى سيكبد الشعب ثمنا باهظا إذا ما حدث تغليب الفوضى على صالح الجزائر.