الوجوه التى لفها الصمت فى المسجد الذى سيخرج منه جثمان الراحل الكبير أستاذى نبيل زكى لم تكن فى حزنها الشفيف تودع قائدًا فى الفكر والتنظيم فقط، ولكنها كانت تودع جيلًا عظيمًا عاش فأبدع، جيلا قدم التضحية تلو الأخرى ودفع الثمن كاملًا، نبيل زكى هو واحد من هذا العنقود فولاذى الإرادة، الكاتب والمفكر والصحفى الخبير أمضى خمس سنوات متصلة سجينًا مع رفاقة بمعتقل الواحات (1959 1964) وعلى الرغم من ذلك لم أسمعه أبدًا يتألم من مرارة السنوات الخمس، أو يتاجر بها متفاخرًا لأنه يعرف جيدًا أن تجارب السجن هى مجرد ضرائب واجبة السداد للدفاع عن أفكار نبيلة مثله آمن بها وعاش حارسًا ومطورًا لها، لذلك راح نبيل زكى بكل صفاء ذهنه يرتب لنا صورة مصر التى نريدها.
يعلن انتماءه الكامل لحزب التجمع يرصف طريق الغد مع خالد محيى الدين ورفعت السعيد والقادة الكبار، يؤسس مدرسته الصحفية فى الأهالى رئيسًا للتحرير ثم رئيسًا لمجلس إدارتها، يبلور مع المكتب السياسى الموقف الواجب اتخاذه، فلا يجد الحزب إلا نبيل زكى متحدثًا رسميًا عنه، سنوات طوال يتحرك القائد واثق من الانتصار، يجوب المحافظات للتثقيف وشد العزيمة والمساندة.
لم تهزمه الشوارع حتى فى 2012 سنة حكم الإخوان السوداء عندما اعتدى عليه شباب محمد مرسى فى محاولة واضحة لاغتياله بشارع رمسيس، يخرج نبيل زكى من المحنة وهو أشد صلابة، لم يفقد بوصلته ولم يهتز له جفن وهو الذى يقترب عمره من الثمانين فى حينها.
تلك الدروس العملية الصلبة لم تذهب سدى، حيث تنتقل الخبرات إلى الأجيال التى تليه كالوشم على الجلد، ويبقى اسم النبيل رمزًا وعنوانًا نفتخر به، فالرجل الذى عرف السجن والاعتقال لا يخيفه الجاهلون، تجربة نبيل زكى لم يكن عمقها اعتقال السنوات الخمس فقط ولكنه تعرض مُجبرًا لتجربة المنفى الاختيارى فى زمن السادات ابتداء من 1974 فيعيش غريبًا فى العراق ولبنان، فكيف لرجل هرسته الحياة يرضى بالجلوس فى بيته بينما مصر يتم اختطافها بيد التنظيم الدولى يخرج نبيل زكى فى هذه اللحظة الحاسمة محرضًا وداعمًا بل ومقاتلًا فى سبيل إزاحة الظلاميين عن الحكم، ويدفع الثمن للمرة الألف يواصل نشاطه دفاعا عمَّا يعتقد.
الرجل الذى درس الفلسفة وتنازل عن موقع جامعى مضمون فى شبابه ليختار بإرادته الكاملة الانخراط فى الحياة السياسية بعواصفها المليئة بالأتربة فى كثير من الأحيان يعيش أكثر من حياة، لم يكن وداعنا له إعلانًا بنهاية الرحلة، ففى ظنى أن تجربة نبيل زكى ممتدة عند تلاميذه أبناء مدرسة الأهالى وحزب التجمع، المهنية المنضبطة والتحليل الهادئ والبصيرة التى ترى حدود الوطن فترسم معالم صيانته، دون صوت زاعق أو تشنج عقائدي، على هذا الطريق كان أستاذنا الراحل وعلى هذا الطريق يمشى تلامذته ومحبوه.