لا تزال «عطفة القاياتي»، أو ما نعرفها اليوم باسم «عطفة السكرية»، والتى تقع على بعد أمتار من «باب زويلة» الشهير فى القاهرة الفاطمية، شاهدة على واحد من أهم داعمى ثورة ١٩١٩، وهو الشيخ مصطفى القاياتي، الذى سكن هذه المنطقة منذ نهايات القرن التاسع عشر؛ ليتحول البيت المبنى على الطراز العثمانى -وهو الأشهر آنذاك- إلى واحد من المنازل التى آوت الثورة ورجالها.
الشيخ القاياتى نفسه، والذى يُعّد واحدًا من أبطال ثورة ١٩١٩، رغم عدم الاحتفاء به كما ينبغي، تعود أصوله إلى قرية «ﺍﻟﻘﺎﻳﺎﺕ» التابعة لمركز العدوة بمحافظة المنيا، والتى ولد فيها فى عام ١٨٧٩، لعائلة اعتادت الالتحاق بالأزهر الشريف، واشتهرت بالعلم والكرم والوجاهة والوطنية؛ وعُرفت دار ﺍﻟﻘﺎﻳﺎﺗﻲ فى السكرية بأنها ملتقى لأهل العلم والأدب؛ وقد حفظ الشيخ مصطفى القرآن الكريم كاملًا فى صباه، وكعادة أبناء العائلة التحق بالأزهر الشريف، وهناك عُرف عنه الجدية فى طلب العلم والمعرفة، وكان يغترف من أمهات الكتب؛ كذلك اشتهر وسط أقرانه بالنزعة الوطنية والميل إلى إصلاح ما حوله، سواء داخل الأزهر أو خارجه، وهو ما دعاه إلى تأسيس جمعية «مكارم الأخلاق» وهو لا يزال طالبًا، لينخرط بعد تخرجه فى الكثير من الأنشطة الاجتماعية والخيرية.
حصل القاياتى على شهادة العالمية من الأزهر، ثم انخرط فى سلك التدريس به، لينتقل بعد ذلك إلى التدريس فى الجامعة المصرية -التى كانت تعرف بجامعة فؤاد الأول وصارت فيما بعد جامعة القاهرة- ليتخصص فى تدريس اللغة العربية وآدابها.
يقول تلامذته فى ذلك الوقت، إنه كان مرجعًا فى اللغة والأدب؛ لكنه كذلك لم يُهمل دوره الاجتماعي، ففى تلك الفترة أسس «جمعية الدفاع عن حقوق مصر»، والتى اشتهرت واتسع نشاطها، ما دعا سلطة الاحتلال الإنجليزى إلى إغلاقها.
لم يكن انضمام الشيخ القاياتى إلى ثورة ١٩١٩ وليد اللحظة أو كان عن طريق المصادفة، فقد كان والده وعمه من الداعمين للثورة الُعرابية، وكان بيت القاياتى مُلتقى لضباط الجيش الداعمين لعرابى فى مواجهته للخديو توفيق، حيث كانوا يعقدون اجتماعاتهم هناك؛ وقد ظلا داعمين للجيش المصرى الثائر فى مواجهة الاحتلال حتى تم القبض عليهما ونفيهما إلى الشام؛ هكذا كان واحدًا من أوائل من ساندوا مطالب الزعيم سعد زغلول بالاستقلال فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، فصار خطيبًا للثورة.
ويقع البيت فى المنطقة التى خلّدها الأديب العالمى نجيب محفوظ فى ثلاثيته الشهيرة، وخلال أحداث ثورة ١٩١٩، صار مكانًا لتجمع مشايخ الأزهر الشريف، واجتمع فيه الزعيم سعد زغلول مع الشيخ القاياتى فى إحدى غرفه.
والبيت مكون من ثلاثة طوابق، وكانت به مجموعة من المشربيات لكنها تعرضت للهدم، وتحفظت وزارة الآثار على المشربيات لديها، وتعلو سوره مجموعة من الكوابيل الحجرية، المشهورة بحمل طوابق عليا أو المشربيات المميزة ذات الطراز العثماني، والتى بدورها ليست بعيدة عن أجواء الثلاثية؛ فى هذا السور أيضًا فتحات لشبابيك مستطيلة، لكن كلها صارت الآن مغلقة ومسدودة بالطوب.
عند الدخول إلى منزل خطيب الثورة تجد صحن البيت الذى تطل عليه مجموعة من الغرف، والتى كانت تُسمى «حواصل»، ومقعد لاستقبال الضيوف ما زالت بعض أعمدته قائمة إلى الآن؛ وهناك آثار لأقبية نصف دائرية، يبدو أنها تقود إلى قاعات مغلقة الآن، وفى مواجهة الداخل للصحن يقودك سلم إلى طابق علوى تستأجره إحدى الأسر من «ورثة القاياتي» الذين يسكنون الطابق الأرضى حتى الآن؛ وسيلفت انتباهك باب خشبى قديم، بعد أن تمر من باب حديدى حديث ذى ضلفتين إلى داخل البيت، الذى يحيطه سور من الحجر الضخم، الذى يسميه الأثريون «حجر فص نحيت ميدماك» للدلالة على قوة ومتانة تراصه فوق بعضه.