منذ مائة عام بالتمام والكمال انتفض الشعب المصرى عن بكرة أبيه فى ثورة شعبية هى الكبرى فى تاريخه، وذلك للمطالبة بالإفراج عن الزعيم الوطنى سعد زغلول وزملائه الثلاثة الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال البريطانى بعدما تقدموا بطلب لحضور مؤتمر الصلح فى باريس وتم رفض هذا الطلب بحجة أنهم لا يمثلون الشعب المصرى كى يتحدثوا باسمه، فقام المصريون على إثر ذلك بتحرير وجمع ملايين التوكيلات لسعد وزملائه، فما كان من الإنجليز إلا قرار الاعتقال والنفى، وهنا انتفض الشعب غضبًا، كان ذلك فى مارس 1919 أى منذ مائه عام، وظن الجميع فى البداية أنها مجرد مظاهرات تطوف شوارع القاهرة هاتفة بالاستقلال ومنادية بسقوط الحماية ومطالبة بالإفراج عن سعد، وأن هذه المظاهرات ستنتهى مع غروب الشمس وحلول الليل، ولكن أتت الرياح بما لا تشتهى السفن، واستمرت المظاهرات وانتقلت من مدينة لأخرى بطول مصر وعرضها، ولم تتمكن قوات الاحتلال السيطرة على الوضع، فقامت باستخدام السلاح، فلما سالت الدماء فى الشوارع كبر الأمر وازداد وخرج تماما عن السيطرة، وتحولت المظاهرات إلى أكبر ثورة فى تاريخ مصر.. وإذا أردنا معرفة تفاصيل هذه الثورة الخالدة فعلينا العودة إلى الوراء قليلًا، فالقصة تبدأ بانتهاء الحرب العالمية الأولى فى نوفمبر 1918، هذه الحرب التى أودت بحياة نحو تسعة ملايين قتيل، نعم عزيزى القارئ، لم يخدعك بصرك حين قرأت هذا الرقم المفزع، فالإحصاءات تؤكد أن البشرية قد خسرت ما يزيد على هذا الرقم فى حرب همجية ومجنونة امتدت لأربع سنوات، حيث بدأت فى صيف 1914 وانتهت فى خريف 1918، وهى من أعنف الحروب والصراعات الإنسانية والتى أشعلها اغتيال ولى العهد النمساوى «فرانز فرديناند» أثناء زيارته للملكة الصربية، وذلك على يد شاب يدعى جافريلو برينسيب أراد أن يلفت نظر حبيبته إليه، وأن يصبح مهما بعدما كانت تتهمه بالتفاهة، وقد كان له ما أراد، فقد أعلنت النمسا الحرب على صربيا لأنها لم تستطع حماية زائرها العظيم، فأعلنت روسيا مناصرتها لصربيا ضد النمسا، فما كان من ألمانيا إلا إعلان دخولها الحرب إلى جانب حليفتها الاستراتيجية النمسا ضد الروس والصرب، وتفاقم الأمر حين قررت بريطانيا وفرنسا دخول الحرب إلى جانب روسيا، فى حين قررت تركيا الحرب على روسيا، وهنا باتت مصر بين حجرى الرحى، فهى تابعة لتركيا منذ احتلتها فى 1517 على يد سليم الأول فيما سمى بالخلافة العثمانية، وهى أيضا تابعة للإنجليز الذين قاموا باحتلالها فى سبتمبر 1882، ومع بداية المعارك أعلنت بريطانيا الحماية على مصر وعزلت الخديوى عباس حلمى الذى كان يظهر ولاء للأتراك وعينت حسين كامل بعد منحه لقب السلطان كيادة فى الأتراك الذين كانوا يحتفظون بهذا اللقب لأنفسهم، فالخليفة التركى هو السلطان وحاكم مصر إما والى وإما خديوى، ومع بداية الحرب العالمية أعلنت بريطانيا أيضا الأحكام العرفية فى سائر البلاد ووضعت رقابة مشددة على الصحف وقانونا يمنع التجمهر، وفى 18 ديسمبر 1914 أعلنت بريطانيا قرار الحماية وكان نصه هو «يعلن ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى إنه بالنظر إلى حالة الحرب التى سببها عمل تركيا فقد وضعت بلاد مصر تحت حماية جلالته وأصبحت من الآن فصاعدًا من البلاد المشمولة بالحماية البريطانية، وبذلك فقد زالت سيادة تركيا على مصر وستتخذ حكومة جلالته كل التدابير اللازمة للدفاع عن مصر وحماية أهلها ومصالحها»، وفى هذا الصدد يقول عبدالرحمن الرافعى فى كتابه ثورة 1919 «من السهل أن تدرك ما فى هذا الإعلان من معنى البغى والعدوان إذ ما علاقة موقف تركيا فى الحرب بإعلان الحماية البريطانية على مصر، لقد كانت النتيجة الطبيعية لهذا الموقف لو حسنت نية انجلترا أن تعلن الاعتراف باستقلال مصر التام، لأنه بزوال السيادة التركية عنها يصبح استقلالًا تامًا، أما ترتيب إعلان الحماية البريطانية على زوال السيادة التركية فأمر لا يفسر إلا بالغرض الذى كانت انجلترا تسعى له وهو إهدار استقلال مصر الداخلى والتام»، وهذا الكلام هو أبلغ رد على الذين هاجموا عبدالناصر حين وقع معاهدة 54، والتى أنهت الاحتلال الإنجليزى لمصر وحين أمم قناة السويس فى 56، حيث زعم هؤلاء أن الإنجليز كانوا سيرحلون عن مصر وسيتركون قناة السويس عندما تنتهى عقود الامتياز، والحقيقة يا سادة وأقولها بكل ثقة أن لولا الجيش المصرى وثورته فى 52 لظللنا تحت نير الاحتلال الإنجليزى حتى الآن، وهذا ليس غريبًا فهناك بعض الجزر وبعض الدول التى مازالت خاضعة للسلطة الإنجليزية إلى يومنا هذا، ونعود إلى مصر إبان الحرب العالمية الأولى حيث توفى السلطان حسين كامل فى أكتوبر 1917، وتولى الحكم السلطان أحمد فؤاد والذى لقب بالملك بعدما نجحت ثورة 19 فى وضع ملامح استقلالية لمصر، وهذا ما سوف نتحدث عنه فى المقال القادم إن شاء الله.
آراء حرة
مائة عام على ثورة شعب (1)
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق