شكّل لقاء البابا وشيخ
الأزهر على أرض دولة الإمارات، وإصدارهما «وثيقة الأخوة الإنسانية»، نهجًا جديدًا
للدولة ونموذجًا للدبلوماسية الساعية لمقاربةٍ أُخرى فى مجالات العلاقة مع العالم،
بعد السنوات السود التى مَرَّت على العرب والمسلمين خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
لقد تكوَّن فى سنوات المواجهة العالمية للإرهاب (الإسلامي) نهجان: نهج المماحكة
وخلْط القضايا ببعضها البعض، بحجة الممانعة والصمود فى وجه المحور الأمريكى
والإسلاموفوبيا وتصفية القضايا العربية الرئيسة.. ونهج التعارف والسلام والتسامح،
وصَوغ علاقات أُخرى مع العوالم السياسية والدينية والثقافية.
يخطئُ النهجُ الأول،
المكوَّن من إيران وتركيا وتيارات الإسلام السياسي، فى تشخيص المشكلات والتصدّى
لها. فهذه الدول والتيارات تستخدم الخلافات وشبه الانشقاقات فى الدين، لتُصارعَ
بها ليس الغرب وحسب، بل والدول الوطنية العربية والإسلامية. وهى لا تأمُلُ من وراء
ذلك الانتصار، بل تريد الاستمرار فى عزْل العرب، والاستمرار فى صنع صورة للإسلام
باعتباره أيديولوجيا وممارسةً تتحدى أمنَ العالم واستقراره. وتأمل من خلال ذلك أن
تُساومَ الغربَ على أهداف دولية وإقليمية لها، مقابل التهدئة على الجبهات التى
تسيطر عليها وتثيرها عندما تشاء.
إنّ هذا النهج ما نجح
خلال عقودٍ إلاّ فى نشر الخراب فى الدول العربية والإسلامية، والتسبُّب فى صعود
الإسلاموفوبيا، واستقدام الجهات الدولية بحجة إخماد الاضطراب الذى يُهدِّدُ
العالمَ انطلاقًا من منطقة الشرق الأوسط.
وقد عمل مبادرو نهج
السلام والتسامح والحقوق والانفتاح فى دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة
العربية السعودية، وخلال العقود نفسِها، على أكثر من جبهة: ففى المجال الدولى
أقاموا علاقات متوازنة وبنّاءة مع أمريكا وروسيا والصين والهند، وتوسطوا فى نزاعات
القرن الأفريقي، وحتى فى النزاع بين الهند وباكستان، ودعموا مشروعات الاستقرار فى
أفغانستان والصومال وليبيا واليمن والعراق والسودان. وفى المجال الدينى والعلاقات
الدينية، دعموا مؤسسات مثل مجلس الحكماء برئاسة شيخ الأزهر، ومنتدى تعزيز السلم
برئاسة الشيخ العلامة عبدالله بن بيّه. وقد تحرك الشيخان باتجاه الجهات الدينية
الكبرى فى العالم، لجلاء صورة الإسلام، وبناء علاقات وثيقة مع تلك الجهات. وصدرت
عدة وثائق مع تلك الجهات، بلغت الذروة فى وثيقة الأخوة الإنسانية، وفى إعلان صاحب
السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولى عهد أبوظبى نائب القائد الأعلى للقوات
المسلحة عن إقامة بيت العائلة الإبراهيمية. وقد تحرك قديمًا فيصل بن معمر مسئول
مبادرة الملك عبد الله للحوار، ويتحرك منذ سنوات الدكتور محمد العيسى رئيس رابطة
العالم الإسلامي، فى الاتجاه المنفتح نفسِه.
إنّ هذين المسارين
المتوازيين: السياسي/ الاستراتيجي، والديني/ الأخلاقي، يشكلان مبادرةً استراتيجية
عربية، لأنّ عدة دول عربية سارت بدرجاتٍ متفاوتةٍ على النهج ذاته. لقد غلبت علينا
جميعًا فى السنوات الأولى مسألة مكافحة الإرهاب، وكان ذلك مبررًا بسبب هول
التحديات. لكنّ دولة الإمارات، والتى ما ظهر فيها متطرفون وإرهابيون، استوعبت الظاهرة
وتجاوزتْها ودخلت فى البدائل والمبادرات السياسية والاستراتيجية والدينية التى
ذكرناها.
نعم، هناك رهانٌ
إماراتيٌّ على نجاح الدولة الوطنية فى العالم العربي، كما نجحت فى الإمارات. وهناك
رهانٌ إماراتيٌّ على إمكان استعادة السكينة إلى الإسلام، فى مجتمعاته التاريخية،
ومع العالم، ونحن العرب لنا مصلحةٌ راجحةٌ فى الأمرين.
إنّ الذى دفعنى إلى هذا
الحديث نقاش دار مع زملاء بالجامعة الأمريكية ببيروت، وكانت هناك وجهة نظر
الاحتجاجيين باسم القومية تارةً وباسم الإسلام تارة أخرى. كما كان هناك من تحدث عن
الدبلوماسية الدينية الناجحة لدولة الإمارات. والذى أراه أنّ الأمر يتجاوز
الدبلوماسية إلى النهج المختلف والمبادر بدون مجازفاتٍ ولا أوهام. ولستُ مستخفًّا بالاحتجاجات.
فالراديكاليون موجودون فى مجتمعاتنا ونُخبنا منذ عقودٍ. وأذكر، وقد كنتُ فتىً، أنّ
بعض هؤلاء أتوا إلينا بالجامعة للخروج فى مظاهرة ضد جمال عبد الناصر عام 1968 أو
1969 لأنه قبل مبادرة روجرز. مال بعض زملائى للخروج وما استطعتُ منعهم (وهم مشايخ)
إلاّ بالهمس فى آذانهم بأنّ هؤلاء يساريون، ويكرهون عبدالناصر لأنه عربي، فالأمر
كما يقال: طفولية يسارية! الذى أزعمه أنّ الإسلام الاحتجاجى بالأمس واليوم،
والقومية الاحتجاجية، كلاهما ليس أمرًا عارضًا، لكنّ الدولة ونهجها قضية عظيمة
الأهمية، وكذلك الدين وسياساته. وهى أمورٌ تتطلب الاستنارة والشجاعة والحكمة.
نقلًا عن «الاتحاد» الإماراتية