مع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية يعود مجددا إلى المشهد مصطلح «صفقة القرن».. تعبير ما زال يحيطه الغموض رغم كشف إشارات عنه لم تقترب من مقومات العملية السياسية، ما يستدعى إلى الذاكرة من الأساطير الإغريقية «صندوق باندورا».. قطعة أثرية تمثل صندوقا مغلقا يحتوى كل أصناف شرور البشرية عبر عصور التاريخ، أما فى الحاضر ترمز عبارة فتح «صندوق باندورا» للقيام بفعل ما يلبث أن يأتى بعواقب كارثية خارجة عن السيطرة.
قد لا يعنى الرئيس الأمريكى ترامب صعوبة التنبؤ بحجم الكارثة التى سيتسبب بها الترويج لهذه الصفقة التى عُهِد بها إلى جاريد كوشنر بحكم توليه ملف التسوية فى الشرق الأوسط- دون الحاجة إلى التذكير بأن القائمين على ملف الصفقة هم أمريكان صهاينة يدعمون إسرائيل أكثر من تل أبيب نفسها-، أبرز العثرات التى تشوب الصفقة، ربط تسوية القضية الفلسطينية بالرؤية الاقتصادية فقط وفق ما ذكره كوشنر خلال جولته الأخيرة لتسويق المسودة الأخيرة من صفقة القرن التى منحت الأولوية فى آليات تنفيذها للعامل الاقتصادى وترى إدارة ترامب أنه المدخل لإنهاء الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى وفق عقلية رجل المال، إدارة ترامب لم يعنها التنبه إلى نتائج الفشل المحتوم لهذا الربط على حساب الشق السياسي، رغم أنه أولًا: يشكل البعد التاريخى والأساسى للقضية. ثانيًا: عدم حدوث تقدم عبر عقود فى هذا المسار لن يحسم بحل جذرى ونهائى عن طريق تغييبه أو إلغائه من الخطة العامة لأى تسوية أو حتى ربطه مباشرة بالمسار الاقتصادي. ثالثًا: ممارسة الضغوط على دول الخليج لتوفير الموارد المالية لتنفيذ الشق الاقتصادى للصفقة سيقابل بالرفض اتساقا مع موقف دول مجلس التعاون الخليجي، أبرز عناصر فشل الصفقة يكمن فى صياغتها وفق حلول أحادية الجانب، وهو ما لن تقبله الدول العربية المؤثرة فى المشهد السياسى للمنطقة، كل الجهود التى تبذلها إدارة ترامب لحشد تأييد المحور العربى مصيرها الفشل إذا لم تلب الصفقة التطلعات الوطنية للشعب الفلسطينى الرافضة لفرض أى صفقات فردية أو صيغ مشوهة للسلام.
سياسيا.. لم يتحول الموقف العربى عن المبادرة التى تبنتها القمة العربية عام 2002 القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام.. هذا التمسك تكرر فى كل موقف، لعل آخرها ورد ضمن كلمتى الرئيس عبدالفتاح السيسى والملك سلمان بن عبدالعزيز فى مؤتمر القمة العربية- الأوروبية حول التمسك بدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، كما لم تكن كلمة وزير الخارجية سامح شكرى خلال اجتماع وزراء الخارجية العرب الأسبوع الماضى بمقر جامعة الدول العربية إعادة إعلان التمسك بهذه الصيغة فقط، لكنها تضمنت إشارة للحراك الدبلوماسى الأمريكى مع اقتراب موعد الانتخابات الإسرائيلية الذى تنوى أمريكا بعد إجرائها الإعلان عن صفقة صندوق «باندورا» أو القرن. إذ أكد شكرى التمسك بمبادرة السلام التى أقرها العرب واتفقوا عليها منذ أكثر من 17 عامًا، ذلك فى إطار إقرار ملف تفعيل مبادرة السلام العربية وإدراجها ضمن بنود الاجتماع، خصوصا أنها المبادرة الجادة الوحيدة التى تلبى التطلعات الوطنية الفلسطينية لدولتهم المستقبلية.. دولة مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
الصفقة لم تقدم أيضا مقومات حلول جذرية للشق الأمني.. رغم انحياز إدارة ترامب المطلق لإسرائيل. الأمن هو الهاجس التاريخى الذى التصق بالشخصية اليهودية منذ خروجهم من مصر مع النبى موسى عليه السلام، صفقة ترامب تقوم على إرساء هذه الحالة أيضا عبر انعاش الأوضاع الاقتصادية فى قطاعى غزة والضفة الغربية فى رؤية تعتمد النهج الأمريكى وليس الشرق أوسطي. وفق تصريحات كوشنر، الصفقة اعتمدت صياغة حلول «واقعية وعادلة» مؤكدا التركيز على مبادئ منها الأمن، فالازدهار الاقتصادى لن يتحقق على أرض الواقع الفلسطينى مع استمرار أجواء عدم الاستقرار والعنف دون تشخيص دقيق للمطالب المشروعة ومقاومة شعب لن يتنازل عن حقه فى إنشاء دولة هى أصلا ملك له بحكم التاريخ.. بالتالى يتضح بعد المساحة بين التوجه الأمريكى وجوهر القضية الفلسطينية. هدف كوشنر فى «تمكين الشعب الإسرائيلى من الاندماج بشكل ملائم فى المنطقة بأكملها» وإنهاء الصدام المسلح بين الشعب الفلسطينى وقوات الاحتلال تبدأ بفرض ترسيم حدود فاصلة بين الدولتين وفق القرارات الدولية السابقة كحل وحيد ينهى الصدام بين الطرفين.. لتتبعها بعد ذلك خطوات الإصلاح الاقتصادي.
التلويح بالأثر الاقتصادى الذى أشار كوشنر أنه سيشمل المنطقة برمتها بما فى ذلك مصر، الأردن، لبنان.. لن يمنح صفقة القرن جواز مرور لاختراق الثوابت التى التزم بها محور الاعتدال العربي، فأى خطة تقترب من تقويض قواعد حل الدولتين لن تكون «صفقة استثمار» ناجحة لإنهاء الهاجس الأمنى الإسرائيلي.. وهى الإشارة الخطيرة فى توصيف كوشنر لقضية الحدود عن القضاء- بمعنى إزالة- على هذه الحدود.. ما يفرض ألف علامة استفهام حول مبدأ قيام دولتين.
رغم غموض ما تم كشفه من المستور.. المؤكد أن غياب الرؤية السياسية والأمنية فى صفقة القرن، سيضيفها إلى مجموعة الخطط السياسية التى أعدتها إدارات أمريكية سابقة، من قبل رؤساء آخرين لكن جميع خططهم انتهت بوضعها على الرفوف دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ على أرض الواقع.