استشرف المفكر الاستراتيجي «جمال حمدان» برؤيته السابقة لعصرها، المستقبل فى موسوعته الفريدة «شخصية مصر»، أمسك بزمام المصريين فى لحظة كادت مشاعر الهزيمة تعصف بهم، اقترب أكثر من وقائع الحاضر وعمق حقائق التاريخ، فأعاد إلى نفوسهم الثقة، التى كادت تُطْمَس فى لحظة ضعف، لكنه ظل مؤمنًا بلحظة الانتصار.
كتب فى يونيو ١٩٦٧: «تحتاج مصر إلى فورة حقيقية كل بضعة عقود أو أجيال، تعيد تقليبها، وتجنيسها، ثم توجيهها إلى الطريق السليم، بل هى فى حاجة إلى الفورة الشعبية، كشرط للبقاء الحق والوجود الكريم؛ لكى تعيش، ولا تنقرض معنويًا وأخلاقيًا»
نشرت «جريدة التايمز» بعد انتصار ٦ أكتوبر ١٩٧٣: «خسائر إسرائيل الأساسية هى فى سمعتها كدولة لا تُقهر، والكسب الأساسى للعرب هو الثقة بالنفس، وثقة الآخرين بهم عسكريًا، ولن يُغير أى عمل إسرائيلى شيئًا من أحد الأمرين»
يقول «حمدان»: «منذ آلت إلى مصر زعامة العالم العربى، أصبحت خير «تصغير» له؛ لأنها الوحيدة التى تتمثل فيها معظم الجنسيات والجاليات الوطنية من جميع الشعوب والأقطار العربية، و«تكبير» له؛ لأنها بالحجم والموقع هى الرأس والقلب وضابط الإيقاع، فهى العالم العربى، لا ظِله، هى المرآة المكبرة، التى يستطيع أن يرى فيها آفاق المستقبل»
استشعر رادره الدقيق نبض مصر، سر عبقريتها، قوة شعبها، سخريته القادرة على محو أى فشل، وتنبأ بنصر قادم؛ لأن المصرى ابن أرضه وترابه وتاريخه العظيم، لكنه فسَّر بوضوح أن كل سلبيات وعيوب الشخصية المصرية يعود فى الأساس إلى «القهر السياسى»، الذى تعرضت له ببشاعة على مدار سنوات طويلة، هذه هى نقطة الابتداء، أو الآفة الأم، أو المأساة الكبرى!
أشعر الآن أن أغلبية بيوتنا ومؤسساتنا وشوارعنا تحولت إلى أطلال مُعطلة فى الفكر والخيال والإبداع، كنت أتحدى دومًا هذا الواقع المؤلم، الذى تحاصرنى تفاصيله من كل جانب؛ فخلقت من غرفتى ومكتبى الصغيرين مُتنفسًا أنيقًا؛ مُزينًا بالتابلوهات، قصارى الزرع، باقات الزهور.
قدَّمت أفكارًا حرةً فى برنامجى «اللى جاى أحلى» براديو «عيش حياتك» عبر الإنترنت على مدار سنتين، ورغم ثراء التجربة وروعتها، إلا أن رسائل المتابعين له، والنقاش المتبادل معهم، أظهرت لى أن معظم كلام الناس ما هو إلا تكرار أجوف، بلا مضمون، فأدركت لماذا لا نتقدم!
قلت فى مقدمته: «لو بتحب، اوعى تخاف، غامر، حب من غير حدود، متخليش حاجة توقفك، لو عندك حلم، اوعى تتخلى عنه، عافر، احلم من غير حدود، متخليش حاجة توقفك، لو الصوت اللى جواك قال لك: اندم على اللى فات، واقلق من اللى جاى، اوعى تصدقه، وواصل، متخليش حاجة توقفك»
كتبت مصادفةً فى أكثر من جريدة، شاركت فى الإعداد التليفزيونى مع فارس الإعلام الراحل «طارق حبيب»، انخرطت فى أنشطة «ملتقى تنمية المرأة»، كمؤسسة أهلية، تسعى للقضاء على كل صور التمييز ضد النساء فى المجتمع المصرى، ترأسها الكاتبة الصحفية الكبيرة «فريدة النقاش» التى تَعلَّمت منها الكثير.
دَرسْت «التذوق الفنى» بأكاديمية الفنون على مدار سنتين، على يد نقاد رواد فى فنون؛ المسرح، السينما، الفن التشكيلى، الموسيقى، الباليه، وأخوض حاليًا تجربة الترجمة لكتابين للأسطورة «مايكل جاكسون» هما؛ «Dancing the Dream» أو « الرقص مع الحلم»، «Moonwalk» أو «المشى فوق سطح القمر»، لتمنحنى متعة قراءتهما، وتأمل إعجازه فى الحركة والصوت والموسيقى، بهجة ليس لها حدود.
اقتربت من البسطاء فى كل مكان، استمعت إلى شكواهم، آلامهم، آمالهم المتواضعة، أحببتهم؛ وجدت فيهم أرواحًا وعقولًا وقلوبًا صافية، أرقى إنسانيًا وفكريًا وأخلاقيًا من كثيرين، ربما يحظون بمكانة اجتماعية مرموقة فى نظر المجتمع، هم لا يستحقونها!
أخيرًا قابلت ما هو أنقى وأعذب ما فى هذه الحياة «منال» المسئولة عن نظافة الإدارة التى أعمل بها، التى تزوجت طفلة صغيرة، تتفتح على الدنيا، فى سن ١٦ عامًا، رجلًا يكبرها بـ ١٤ عامًا، أراد حجبها فى بيته، تخزينها فى دولابه الخاص، لكنها رفضت.
لم تسمح لها ظروفها المتعثرة باستكمال تعليمها، لتدرس فى كلية «الطب» كما تمنت، فتفوقت فى مجال التمريض، لكنها واجهت مكائد بشرية مخجلة، أزاحتها، لفقت لها أحقر التهم، وهى بريئة تمامًا منها، لكنها حصدت احترام الجميع، حازت على أكثر من شهادة تقدير، كرمتها «أكاديمية المستقبل» كواجهة مُشرِّفة للمؤسسة، ورشحتها لمراكز أرفع.
تواجه «منال» وقاحة هذا العالم بابتسامة، تستقبلنى بها كل صباح، أرى فى إصرارها ورجاحة عقلها ووجهها المشرق «الأمل» الذى يغتالونه كل يوم فى عيون كل طفل أو شاب أو فتاة أو فقير، يشق طريقه وسط جبال من الحزن والإحباط والانكسار مع كل أزمة أو كارثة أو مِحرقة تَحصُد أرواحهم الطاهرة.
مازالت تعمل «منال» بمثابرة وصلابة فى الصباح والمساء، دون تذمر، مرفوعة الرأس، ناصعة الجبين؛ لتنفق على زهراتها المتفوقات الثلاث، تدفعهن إلى الحلم الجميل، الذى لم تتمكن هى من تحقيقه.