لعل نشوب حريق محطة سكك حديد مصر، يفتح ملف الأحداث الصادمة التى غطاها الصحفيون والإعلاميون المصريون فى السنوات الأخيرة الماضية من تفجير لمساجد وكنائس والهجوم على أكمنة وحوادث إرهابية وتفجير طائرات.
لقد شهدت السنوات الأخيرة عددًا من أحداث العنف والإرهاب وحوادث الطرق والقطارات والطائرات والجرائم المختلفة من الأحداث الصادمة التى يهرع إليها الصحفيون لتغطيتها فيشاهدون القتلى والدماء والأشلاء، وكثيرًا ما يلتقون بأهالى ضحايا هذه الأحداث فيروْن دموعهم ويشهدون صراخهم وعويلهم على مَن فقدوهم ويستمعون لعشرات القصص المؤلمة لناجين ومصابين، وقد تترك تغطيتهم لهذه الأحداث أثرها النفسى عليهم؛ فتداهمهم الذكريات المؤلمة لهذه المشاهد، وتطاردهم الكوابيس المزعجة، ويُصابون باضطرابات فى النوم، وقد يصلون إلى الاكتئاب بل قد يشعرون بآلام جسدية مفاجئة كزيادة فى معدل ضربات القلب أو صعوبة فى التنفس، وكلها تندرج تحت ما يسمى باضطراب ما بعد الصدمة Post-Traumatic Stress Disorder.
ورصدت هذه الأعراض للمرة الأولى دراسة علمية أُجريت فى عام 1999 تناولت الجانب النفسى للصحفيين الذين يغطون الأحداث الصادمة؛ حيث بينت أن الصحفيين بعد تغطيتهم لهذه الأحداث يشعرون بالقلق وتطاردهم صور لا يمكنهم محوها من ذاكرتهم لمشاهد الضحايا والدماء، وقد يشعرون بالذنب، ويعانون من اضطرابات فى النوم، وتظل فى أنوفهم رائحة الجثث.
ويؤكد الكثيرون أن المصورين الصحفيين هم الأكثر تعرضًا للمشاهد الصادمة من أى شخص آخر فى غرفة الأخبار، فهم يذهبون بأنفسهم لتغطية القصص ولا يستطيعون تأدية مهامهم إلا بوجودهم فى قلب الحدث، وقد توصلت دراسة نشرت عام 2003 طُبقت على 875 مصورًا صحفيًا إلى أن 98٪ منهم يتعرضون للصدمات النفسية عند تغطيتهم للأحداث الصادمة كجزء من وظيفتهم اليومية.
ولهذا كان من الضرورى على المؤسسات الصحفية تأهيل المحررين والمصورين الصحفيين نفسيًا لتغطية مثل هذه الأحداث بمشاهدها المؤلمة، إضافةً لتأهيلهم على التعامل مع أهالى ضحايا هذه الأحداث حتى لا يتسببوا فى إلحاق أى ضرر معنوى بهم.
وفى ضوء العدد المتزايد للأحداث الصادمة سواء الناتجة عن حالات العنف أو الإرهاب أو الكوارث الطبيعية، أو الناتجة عن الحوادث المتكررة للسيارات والقطارات وغيرها تبرز الحاجة إلى إجراء مزيد من الدراسات للتعرف على الأثر المتراكم لتغطية الصحفيين لهذه الأحداث على سلامتهم النفسية.
فى هذا الإطار جاءت الدراسة المهمة للباحثة الدكتورة رحاب محمد أنور مدرس الصحافة بقسم الإعلام بكلية الآداب جامعة المنيا فى محاولة للتعرف على العلاقة بين تغطية المحررين والمصورين الصحفيين للأحداث الصادمة واضطراب ما بعد الصدمة لديهم، مع محاولة للوقوف على الدور الذى تقوم به المؤسسات الصحفية فى تدريب صحفييها، الذين يقومون بهذه المهام وتقديم الدعم المعنوى لهم.
وتمثل الدراسة محاولة لارتياد مجال الدراسات البينية للاستفادة من العلوم الأخرى، وتستفيد هذه الدراسة من مجال علم النفس، كما تمثل الدراسة محاولة للتعرف على الدور الإنسانى الذى تمارسه غرف الأخبار عند التعامل مع العاملين بها.
وقد تبين من خلال مسح التراث العلمى السابق اهتمام الدراسات الأجنبية بالجانب النفسى للقائمين بالاتصال، الذين يقومون بتغطية الأحداث الصادمة، سواء كانت هذه التغطية لمناطق الحروب أو تغطية لأحداث صادمة ضخمة، أو لأحداث صادمة يومية كحوادث القطارات والسيارات والهجمات الإرهابية على المدارس ودور السينما فى محاولة للتعرف على الآثار النفسية لتغطية هذه الأحداث على القائمين بالاتصال.
وركزت هذه الدراسات بشكل خاص على بحث أعراض اضطراب ما بعد الصدمة بين القائمين بالاتصال، الذين يقومون بتغطية هذه الأحداث، فى الوقت الذى لم تتطرق فيه أى دراسة عربية لهذا المجال البحثى رغم ما تعانيه بعض دولنا العربية من الحروب والصراعات على أراضيها وما يشهده صحفيوها يوميًا من مشاهد لجثث وأشلاء ودماء، ورغم ما تعانيه دول عربية أخرى ومنها مصر من أعمال إرهابية ينتج عنها كثيرٌ من الخسائر البشرية إضافة لتصاعد أعمال العنف التى ينتج عنها أيضًا عديد من الضحايا غير الحوادث المتكررة للسيارات والقطارات وغيرها، والكوارث الطبيعية كالسيول والتى غالبًا ما تجتاح بلادنا ربما مرة على الأقل سنويًا، وغيرها الكثير من الأحداث التى ينتج عنها مشاهد مؤلمة ويكون لزامًا على المحررين والمصورين الصحفيين - بحكم عملهم - أن يشاهدوها وأن يشهدوا ردود الأفعال المؤثرة لأهالى ضحايا هذه الأحداث، والتى غالبًا ما تترك أثرها النفسى عليهم.
من هنا تتزايد الحاجة إلى الاهتمام ببحث التغطية المهنية لهذا النوع من الأحداث للتعرف على طبيعة ما يتعرض له المحررون والمصورون الصحفيون من ضغوط أثناء قيامهم بمهامهم وبيان الأثر النفسى لذلك عليهم مع التعرف على حدود الدور الذى تؤديه المؤسسات الصحفية فى تأهيل محرريها ومصوريها لأداء هذه المهام فى محاولة للتقليل من الآثار النفسية السلبية التى قد تصيبهم.
وفى إطار ما تقدم فإن مشكلة هذه الدراسة التى أجرتها د. رحاب أنور تتمثل فى رصد تغطية المحررين والمصورين الصحفيين للأحداث الصادمة اليومية والتعرف على انعكاساتها على اضطراب ما بعد الصدمة لديهم وكذلك محاولة الوقوف على الدور الذى تقوم به المؤسسات الصحفية فى تأهيل وتدريب صحفييها للقيام بهذه المهام، وذلك فى إطار مجموعة من المتغيرات الوسيطة وهى النوع وسنوات الخبرة والقسم الذى يعمل به الصحفي.
وسعت الدراسة لتحقيق هدفين رئيسييْن وهما التعرف على علاقة تعرض المحررين والمصورين الصحفيين للأحداث الصادمة من خلال تغطيتهم لها بظهور أعراض اضطراب ما بعد الصدمة عليهم، وكذلك التعرف على دور المؤسسات الصحفية التى ينتمون إليها فى تهيئتم لتغطية مثل هذه الأحداث وتقديم الدعم المعنوى لهم أثناء وبعد التغطية.
وفى سبيل تحقيق هذين الهدفين سعت الدراسة لتحقيق أهداف فرعية مهمة، منها: التعرف على معدل تغطية المبحوثين للأحداث الصادمة خلال العام الماضي، وشدة تغطية الأحداث الصادمة التى يتعرض المبحوثون لها، وشعور المبحوثين عند تغطيتهم للأحداث الصادمة، واتجاهات المبحوثين بعد تغطيتهم للأحداث الصادمة، ومعدل اضطراب ما بعد الصدمة بين المبحوثين، والأساليب التى يتبعها المبحوثون فى مواجهة الضغوط النفسية التى يتعرضون لها بعد تغطية هذه الأحداث، ودور المؤسسات الصحفية فى تهيئة المبحوثين لتغطية مثل هذه الأحداث، وتقديم الدعم المعنوى للمبحوثين بعد تغطيتهم لها.
ونبدأ الأسبوع المقبل بإذن الله فى استعراض نتائج هذه الدراسة المهمة.