ماذا لو قامت الدولة بتوفير الميزانية المطلوبة لإصلاح السكك الحديدية، وعملت على تطويرها بادخال أحدث النظم لإدارة هذا المرفق الحيوي؟!
هل يعنى ذلك عدم تكرار فاجعة الأربعاء الأسود فى محطة مصر أو غيرها من محطات ثانى أقدم خط سكة حديد فى العالم؟!
ماذا لو أن الدولة نجحت فى تطوير منظومة التعليم بمراحله المختلفة خلال عام واحد، وأتاحت «التابلت» لكل الطلاب من مرحلة الـ«كى جى تو» إلى الثانوية العامة؟! هل يعنى ذلك إحداث تغيير جذرى نحو الأفضل فى العملية التعليمية؟!
ماذا لو تمكنت الدولة من تطبيق نظام التأمين الصحى الشامل فى كل المحافظات دفعة واحدة؟! هل يعنى ذلك أن المصريين سيتلقون أفضل خدمات الرعاية الصحية؟!
ماذا لو أن الدولة استطاعت إصلاح جميع الطرق الرئيسية والفرعية بما فى ذلك الشوارع الجانبية والحارات، وأدخلت أحدث منظومة مرورية؟! هل يعنى ذلك توقف أو على الأقل الحد من نزيف دماء المصريين على الأسفلت فى حوادث سير قاتلة؟!
ماذا لو أن الدولة وضعت نظامًا صارمًا يعمل على تنظيم السوق وحركة البيع والشراء؟! هل يعنى ذلك انخفاض الأسعار وارتفاع القيمة الشرائية للجنيه والحد من ظاهرة جشع التجار؟!
الإجابة قطعًا لا، والسبب ليس لأننا ما زلنا نعيش فى الأرض ولم نرتقِ بعد إلى السماء أو أن تطبيق أى منظومة حديثة يستغرق بعض الوقت حتى تظهر نتائجها الإيجابية، وإنما لأننا اتخذنا من الإهمال والتقصير فى أعمالنا وكل مناحى حياتنا أسلوبًا ومنهجًا للحياة.
لا أبالغ إذا قلت إنه من المستحيل نجاح أحدث النظم فى تحقيق المرجو منها بأى مجال لأن المشكلة لا تكمن فقط فى توفير الإمكانات التقنية وإنما فى الإنسان المسئول عن تشغيلها.
انعدام الشعور بالمسئولية وغياب الضمير والإهمال فى العمل كانت عناوين رئيسية لفاجعة محطة مصر منذ اللحظة الأولى لوقوعها وسيطرت بوضوح على كل تفاصيلها وتداعياتها وصولًا إلى الفضيحة الصحفية التى تورط فيها الإعلام المصري، الخاصة بخبر ترشيح شخص متوفى أو ربما لا وجود له إلى منصب وزير النقل والمواصلات خلفًا للوزير المستقيل هشام عرفات.
سقوط عشرات الشهداء والمصابين على رصيف محطة مصر بهذه الصورة المرعبة دفع بمشاعر الخوف والفزع داخل قلوب المصريين ليس فقط من تكرار الفاجعة فى أى مكان آخر وبأى صورة أخرى، وإنما أيضًا الخوف على حاضرهم ومستقبل أبنائهم، فها هو الإهمال يتسبب فى موت العشرات حرقًا وبمنتهى القسوة، والمؤكد أنه يحصد المزيد من تلك الأرواح داخل المستشفيات العامة والخاصة على حدة سواء، وسيتسبب فى قتل منظومة التعليم الجديدة وهى ما تزال فى مهدها، وفى خراب أى مشروع قومى جديد مهما بلغت عظمته، وبنفس الفداحة والقسوة جاءت فضيحة الإعلام المصرى فى اعتماده على تغريدة نشرها أحد العابثين على موقع التواصل الاجتماعى «تويتر» دون أن يمارس دوره الطبيعى فى التحقق من صدق ودقة الخبر ليعيد إلى الأذهان مرة أخرى جريمته الشنعاء فى يوليو 2015 عندما صور بأخباره الكاذبة أن تنظيم داعش الإرهابى سيصل إلى أبواب القاهرة مع غروب شمس ذلك اليوم أيضًا لاعتماده على نقل أكاذيب من قنوات يعلم مسبقًا أنها معادية للوطن، أثناء هجوم مجموعة من عناصر تنظيم ولاية سيناء الإرهابى على أحد الأكمنة بالشيخ زويد.
بينما يشن الإعلام المعادى هجمة شرسة على الدولة المصرية يخرج إعلامنا الوطنى بفضيحة كبرى تزلزل ثقة المصريين فى مصداقيته التى طعنها بيده فى مقتل، وبالطبع لو تمت محاسبة المسئولين عن نشر خبر الوزير الوهمى بدءًا من المحررين مرورًا برؤساء الأقسام ومديرى التحرير وصولًا إلى رؤساء التحرير سينتفض غاضبًا متهمًا الدولة بتقييد حرية الرأى والتعبير.
هذه الفضيحة ستدفع المصريين دفعًا لاستقاء معلوماتهم من وسائل الإعلام المعادية التى تنفث سمومها عبر أبواق دوحة الإرهاب وشقيقتها أنقره.
للأسف يبدو غالبية الصحفيين والإعلاميين، وكأنهم يدافعون عن حرية نشر الخبر الكاذب والشائعة المغلوطة، والكلمة المناهضة والمحرضة على العنف والدمار لا الرأى المعارض الذى يسعى لتصحيح المسار.
وليسأل كل منا نفسه كيف نتوقع نجاح منظومة التعليم الجديدة بينما غالبية المدرسين يرفضون الشرح داخل الفصول، ويمارسون كل أشكال الضغط على الطالب، وولى أمره لإجباره على الخضوع لإرادته بالتوجه إلى ما تعرف بـ«السناتر» التعليمية.
كيف يمكن لنا أن نتوقع نجاح أى منظومة إدارية متطورة، بينما الموظف والطبيب والمحاسب والمهندس يعمل بنظرية «على قد فلوسهم».
كيف يمكن توقع تطور مجتمع كل أفراده يعانون من كل أفراده فلا الحرفى يخلص لعمله ولا سائق التاكسى يحترم قيمة الأجرة التى يحددها العداد بل يتفنن ويبدع فى تعطيله أو جعله يعمل بوتيرة أسرع تضاعف قيمة الأجرة.
كيف لمجتمع أن ينهض وصحفيوه يجلسون طوال الوقت أمام شاشات الكمبيوتر ينتظرون ما يأتى به «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستجرام» من أخبار وصور، ويعتمدون على مواطنين عاديين فى نقل الخبر والمعلومة متجاهلين قواعد العمل الصحفى والمصادر الطبيعية لأى خبر، بل إن بعضهم يدافع وبضراوة عن الخبر المجهول المصدر، ومن بينهم عضو بمجلس نقابة الصحفيين الحالى، ويؤكد فى مقال طويل عريض غير مستحٍ أن الخبر الصادق والحقيقى دائمًا يكون مجهول المصدر وأن تجريم قانون تنظيم الصحافة هذا النوع من الأخبار يحرم القارئ من معرفة الحقيقة ويقوض حرية الصحفى.
من منا لا يهمل فى عمله، من منا لم يقل يومًا «مشيها وخلاص خلى الليلة تعدي»، من منا لم يعانِ من الطبيب صاحب الضمير الميت الذى أوهمه بضرورة إجراء عملية جراحية لا حاجة له بها، ومن منا لم يعانِ من الميكانيكى المخادع، والسباك الكاذب.
من منا لم يسعَ لدفع رشوة أو البحث عن وساطة من أجله أو من أجل أحد أقاربه ليفوز بوظيفة ميرى فى إحدى الهيئات الحكومية ثم أهمل وقصر فى عمله بحجة ضعف الراتب رغم أنه ربما أضطر لدفع عشرات الآلاف من الجنيهات.
الإهمال يعصف بمستقبل هذا الوطن وينخر كالسوس فى قيمه ولعل فاجعة محطة مصر تكون الإنذار الأخير، وبات على الدولة إن أرادت إصلاحًا أن تسعى لسن تشريع جديد يعرف جريمة الإهمال والتقصير فى العمل، ينص على عقوبات تصل إلى الإعدام فى حالة التسبب فى الوفاة، والحبس بحسب الضرر الواقع على مصالح البلاد والعباد، على أن تشمل كل المسئولين بدءًا من الوزير وصولًا إلى الغفير، ولا يكون أقصى عقاب للوزير الاستقالة أو الإقالة باعتباره المسئول السياسى.
ليكن قانون الإهمال الصوت أو العصى الغليظة التى تضرب كل مهمل فى أداء عمله أو متابعة موظفيه وعماله.
Ali.elfateh2017@gmail.com