فوجئت كمعظم المصريين بلقاء الإعلامى وائل الإبراشى بسائق القطار الذى تسبب فى كارثة بمحطة مصر خلال الأسبوع الماضى، والمفاجأة ليست فى استضافته، ولكن فى أسلوبه وفى هيئته ومستوى ثقافته، واللا مبالاة التى يتمتع بها، وتساءلت: كيف لهذا أن يكون مسئولا عن أرواح البشر، ومن الذى سمح له بذلك؟ ومن قام بتعيين مثل هؤلاء كسائقين لقطارات سكك حديد مصر؟ وواقع الأمر أن الإجابة عن هذا السؤال ستفتح أبوابا قديمة مغلقة منذ قديم الأزل؛ حيث كان قطاع السكة الحديد ولسنوات طويلة هو قطاع المجاملات، ففى العهد الملكى كانت الرشاوى الانتخابية تدفع للبسطاء بتعيين أحد أبنائهم فى الحكومة أو فى الميرى، ولأن هذا الابن لا يجيد القراءة والكتابة فقد جرى العرف على تعيينه، إما فى السكة الحديد أو فى الأوقاف، وكان الفلاحون ينتظرون قدوم الباشا أو البك صاحب العزبة والأطيان وعضو مجلس النواب أو الشيوخ، ويذهبون إليه بعريضة كى يمهرها بتوقيعه وترسل لمدير المديرية أو المسئول عن الأوقاف أو السكة الحديد لتعيين أحدهم فى «الميرى»، واستمر الحال بعد ثورة 52 بل ازداد الأمر فى ظل فتح أبواب التوظيف الحكومى أمام أبناء الشعب، والذى أدى إلى تكدس وظيفى لم تعهده دولة من قبل وبات كحق مكتسب وأصيل لجميع المواطنين، فبمجرد حصولك على أى مؤهل تصبح على ذمة القوى العاملة الملزمة بتعيينك خلال أشهر من حصولك على الشهادة حتى لو كانت هذه الشهادة هى شهادة «محو الأمية»، وقد رأيت بأم عينى كيف كان الفلاحون يتزاحمون للقاء أحد المحافظين بغية مساعدتهم فى تعيين أبنائهم بالحكومة، وكان هذا فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى؛ حيث أصبح عمى اللواء محمد فتح الله سلامة محافظا لكفر الشيخ، فما كان من أبناء قريتنا إلا التجمع أمام بيته وفى أيديهم طلبات التعيين، وكم من شاب تم تعيينه فى الأوقاف كخادم لأحد المساجد، وكم من شاب تم تعيينه كعامل بالسكة الحديد، وأدركت أن هذين القطاعين بالإضافة إلى قطاع الرى والزراعة هى قطاعات المجاملات، فخادم المسجد ليس شرطا أن يكون مجيدا للقراءة أو الكتابة، ويكفى لعامل مزلقان السكة الحديد أنه يجيد كتابة اسمه فقط، أما موظف شباك التذاكر فيكفيه الحصول على الابتدائية أو الإعدادية، أما لو حصل على دبلوم فنى؛ فهو ذلك يستحق أن يكون ناظرا للمحطة، ونفس الشىء ينطبق على معظم السائقين، فهم بلا مؤهلات مناسبة، ومبلغ علمى أن سائق القطار فى الدول المتقدمة لا بد أن يكون حاصلا على مؤهل عال مناسب، وعلى دورة تدريبية فى إدارة الأزمات، وهو يخضع للكشف الطبى «الفسيولجى والنفسى» مرة كل عام على الأقل، وهو يقارن دائما بالطيار، بل إن المسمى الوظيفى لسائق القطار عندهم هو «قائد القطار»، وهو يرتدى زيا خاصا أشبه ما يكون بزى الطيار، وله ساعات عمل معينة وأوقات للراحة، إذ إنه المسئول الأول والأخير عن آلاف الأرواح، وأعتقد أن أول قرار يجب أن يتخذه وزير النقل الجديد هو تحويل جميع السائقين الموجودين حاليا إلى وظائف أخرى أو عليهم أن يقودوا قطارات البضائع، وأن يتركوا أماكنهم لجيل جديد مؤهل لهذه المهمة الخطيرة التى تتطلب ثباتا وإحساسا بالمسئولية، وليس صعبا أن يتم التعيين على مراحل، وأن يحصل قائد القطار الجديد أولا على دورة تدريبية فى أكاديمية ناصر تخص إدارة الأزمات، وعلى دورة أخرى بمركز إعداد القادة، إلى جانب دورة ثالثة فى فنيات عمله، أما أن نترك هؤلاء الذين ظهروا عبر القنوات المختلفة خلال الأيام الماضية وراحوا ينتقدون الحكومة ويتهمونها بعدم تطوير قطارات مصر، وأن معظم الجرارات كما قالوا غير صالحة للاستعمال فهذا هو قمة العبث وهو الهروب من المسئولية بإلقاء التهم على الحكومة، التى قامت بالتحديث خلال السنوات الماضية وأضافت الكثير من الجرارات الجديدة إلى أسطول الجرارات الموجود، ويجب على هؤلاء قبل أن يتحدثوا عن الجرارات أن يخضعوا للتحليل الطبى لنرى هذا الكم من السائقين الذين يتعاطون المخدرات، وعليهم أيضا أن يشاهدوا الفيديوهات المنتشرة لزملاء لهم وهم يدخنون الشيشة أثناء القيادة وبعضهم يرقص ويغنى وهو يدخن الحشيش، العيب يا سادة ليس فى الماكينة، ولكن فى البشر الذى يقود هذه الماكينة، وفى مصر جرارات حديثة للغاية، ولكن هل هذا يعنى أن نلقى فى البحر بالجرارات القديمة التى ما زالت صالحة للاستعال أم يتم نقلها إلى الخطوط الفرعية كما يحدث فى جميع بلدان العالم؟
آراء حرة
سائق القطار
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق