الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الرجل المدفون فوق جدة أمي وأبي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لعل بعض الشخصيات تولد لتبقى ذكراها وتكون علامة، ولعلها حين يخفت بريقها تأبى إلا أن يتردد اسمها من جديد. ولعل القدر هو ما يرتب سير الأمور بلا شك. أكتب ذلك لأن معركة دائرة فى نطاق العائلة الآن حول الرجل المدفون فوق جدتنا الكبيرة. الجدة التى تردد اسمها طويلا وحفر فى الزمن كما حفرت هى نفقا فى سور الجهل وبنت مدرسة للبنات فى الأربعينيات ليدخل النور مع دخول حفيداتها وبنات القرية إلى مدرستها ويتردد كل صباح فى البيوت الطينية حين توقظ الأمهات بناتهن وحين تكتب البنات على كراساتهن مدرسة الحاجة نبيهة الابتدائية للبنات بخطوط صغيرة بريئة تنزل من على السطر لتشرب أو بخطوط منمقة تتأنق فى محاولة لتقليد خط المعلمات اللواتى يقمن فى سكن المدرسات. حتى جاء العهد الناصرى وأنشأت المدارس الحكومية، تحكى لى أمى أنهن كن يتلقين تعليمهن إلى جانب الأنشطة المختلفة وتحكى خالتى أن المدرسة كانت تقيم حفلا سنويا فى نهاية كل عام. يقدمون فيه استعراضات وتابلوهات يمثلن فيها لوحات غنائية راقصة وقالت عمتى إنهن كن يشتركن فى الأنشطة كباقى التلميذات يلبسن الملابس الملونة والفساتين التى تنفشها الجيبونات فيصبحن أشبه بالباليرينات وكانت جدتهن تجلس فى الصف الأمامى مع الزائرين والحضور. فيرتبكن من هيبتها ويخفن كحفيدات وبنات عائلة معروفة، يتحاشين رؤيتها أو الظهور أمامها أثناء زيارتها للبيت طوال الإجازة الصيفية حتى تنسى رقصهن على خشبة المسرح وتنسين هن نظرة اللوم التى كانت بعيونها وهى تشاهد العروض المختلفة. كنت أتمنى أن أكون فى هذا البعد الزمنى لأسألها الكثير من الأسئلة التى لم تستطع أمى أن تجيبنى عليها، أمى التى كانت تشترك فى أداء التابلوهات والغناء، أمى ابنة الشيخ الجليل زوج السيدة ألطاف أخت جدى الذى تعلم الصرامة من مدرسيه بالمنصورة ودقة الإنجليز الذين تلقى على يديهم فنون اللغة الإنجليزية التى كان يحاجينا بها منذ نعومة أظافرنا وجعلنا نجبها. طبيعى أن يكون هذا الرجل ابن هذه السيدة الفاعلة القوية المنيرة السيدة التى آمنت بالعلم فاستحضرته فى مكانها لحفيداتها وآمنت بالعمل المجتمعى فعلمت معهن كل البنات، السيدة التى حملت مسئولية عائلة كبيرة وفدادين كثيرة بعد وفاة زوجها فى فى الثلاثينات فاستكملت الحياة بقوة واقتدار أورثاها مهابة لا تخلو من التواضع، وبعد سنوات ولدنا نحن أحفاد أولادها فعرفناها من صورتها المعلقة ضمن الصور المتراصة لرجال ونساءالعائلة. بعد خمسين عاما من وفاتها ودفنها وحيدة فى قبر خاص بها، يلعب الزمن لعباته الخائبة فتنقسم العائلات وتجدد القبور وتتسع لأجيال متتالية من الأسماء لسيدات، فلا نكاد نذكر منهن واحدة ولا نعرف من أسمائهن اسما يوازى اسم (الحاجة نبيهة ياسين) الجذر والوتد والعمود الفقرى والمعنى والتاريخ الذى ظل محفوظا عزيزا فى قبره حتى آلت قسمة المقابر إلى أقارب بالعائلة، فصار بإمكانهم دفن نسائهم معها فيأتى رجل منهم وينتقى قبرها ليدفن فيه يدفن فوقها فى مقابر النساء. لم تستطع العائلة وقت دفنه منع ذلك لأنهم تأخروا فى الطريق. وقالت ابنتها متعها الله بالصحة كيف يدفن رجل فوق أمى وأنا أريد أن أدفن معها؟ لم يكن أمامنا سوى الانتظار حتى تجف عظام الرجل ونطالبهم بنقله إلى مقابر الرجال لأنهم يملكون عددا كافيا من المقابر وليست هناك ضرورة تجبرهم على ذلك، ودفن الرجال مع الرجال والنساء مع النساء هو ما اعتدناه وما ألفناه. هكذا بدأ الجدل حول نقله إلى مقابر الرجال بعد مرور عامين. لكنى إلى الآن لا أعرف كيف فكر هذا الرجل بقبر سيدة كيف انتقى قبر جدتنا حتى وإن آلت إليهم بالقسمة كاسرا التقاليد وضاربا بها عرض الحائط وقاطعا على ابنتها الطريق لتحقيق أمنيتها فى الدفن معها ولها نفس حقوقه أيضا، لأن زوجها من عائلة هذا الرجل. أكتب الآن كشاهدة على الأحداث العائلية، التى مفادها أن جدتنا الكبيرة تتألم لوجوده معها فى قبر واحد وأن هذا الأمر مزعج ومهين، لا أعرف ما ستؤول إليه الأحداث التالية فى هذا الأمر وأتساءل هل بإمكاننا نقل رفاة جدتنا التى توفيت منذ خمسين عاما دون أن تهدم المقبرة؟ هل سينقولون الرجل إلى مقابر الرجال دون اعتراض على دفن نسائهم معها؟ ولو بقى الوضع على ما هو عليه، هل سيمنعوننا من وضع لافتة تحمل اسم جدتنا بجوار اسم هذا الرجل؟ لتكون الحادثة الأولى من نوعها لقبر يحمل اسم رجل وامرأة لا تربطهما صلة أو قرابة. أكتب باعتبارى إحدى الحفيدات وأراها بعد خمسين عاما من وفاتها تأبى أن توجد فقط كاسم فوق أطلال مدرستها كأنها تقول، أنا هنا مازلت اسما ومعنى وروحا محلقة لا يغيب نورها فى المكان الذى عاشت فيه، مازلت قادرة على إثارة الأسئلة وتحريك الأحداث حتى بعد وفاتها أكثر من أحفادى القضاة وحفيداتى وكيلات النيابة والأطباء والطبيبات وأساتذة الجامعة، أكتب وأنا أنتظر، لأكتب ثانية لعل ما أكتبه يردنا إلى ما بدأنا به وهو أن بعض الشخصيات تولد لتبقى ذكراها وتكون علامة، ولعلها حين يخفت بريقها تأبى إلا أن يتردد اسمها من جديد.