انفطرت قلوب المصريين وهم يشاهدون النيران تتدفق على رصيف محطة القطار، وهم يشاهدون الإهمال مجسدًا فى قطار وسائق وهم يشاهدون الأبرياء ما بين قتيل ومصاب.
لحادث المحطة دلالات رمزية موجعة، فالمحطة تعتبر هى المحطة الأم فى عموم بر مصر وتعتبر ركنًا رئيسيًا من أركان الميراث التاريخى والحضارى لبلادنا، على هذه المحطة تحديدًا مشت مصر كلها، شهدت أحداث ومواقف وفنون ودراما، المحطة شاهدة علينا وعلى آبائنا وأجدادنا وعندما تندلع النار فيها لتلتهمها، فالنار لا تأكل الضحايا وحدهم ولكنها تأكل الذاكرة والروح وتعلن عن العجز الذى يصيبنا نحن الأحفاد.
تابعت الحادث ولم أكتب تفاسير عنه لكونه الآن بين يدى المحققين، وسوف نعرف عاجلًا أم آجلًا أسبابه والمتهمين فيه ومصيرهم، ولكن ما نعرفه الآن بشكل مؤكد ولا يحتاج وقتا لإعلانه هو أن طوابير الشباب التى اندفعت إلى المستشفيات للتبرع بالدم هم الملاك الحقيقيون لهذا البلد والإضاءة التى نواجه بها ظلام الإهمال والفساد والإرهاب والتخلف، الشباب قد يكون متعطلًا عن العمل ولا يملك فى جيبه ثمن ساندوتش الإفطار ولكنه يعرف جيدًا أنه يملك فى شرايينه دماء قادرة على دفع الحياة فى مصر المحروسة فلم يبخل وبذلها دون نداء من جهة أو إلحاح من تيار.
والمثل الحى والنادر والجدير بالانتباه هو مشهد الفتاة ياسمين سليمان خليفة التى سقطت من على رصيف المترو يوم الخميس الماضى. كاد المترو أن يدهسها لولا مهارة السائق والعناية الإلهية، ياسمين فتاة من سوهاج ومغتربة بالقاهرة للدراسة استيقظت فى الصباح توجهت لمستشفى الهلال تبرعت بدمها عادت فى هدوء إلى المترو سقطت من الإعياء فعرفنا قصتها من بيان أصدره جهاز تشغيل المترو.
كم من مئات الياسمين بل قل آلاف اهتزت قلوبهم مع صورة النار التى اقتحمت رصيف محطة مصر، وكم من ملايين الدموع الصامتة التى تحجرت فى العيون ونحن نتابع حريق لبشر أبرياء أولًا ولرمز وتاريخ اسمه محطة مصر ثانيًا، هذا يجعل من حقنا أن نتساءل متى ينتهى هذا العبث نعم أقول متى؟ أسال عن الزمن والمدى المنظور.. نعرف أن معركتنا ضد الإرهاب لا يمكن تحديد موعد لحسمها، ولكن معركتنا ضد الإهمال والتسيب والفساد من حقنا معرفة موعد إعلان الانتصار عليه.
محطات القطارات فى كل العواصم هى رموز حضارية وعناوين لمستوى البلاد وكاشفة لمدى التحضر والتطور فى بلد عن الآخر، محطات القطارات ابتداء من دورات المياه وصولا لمواعيد التقاطر ونسبة الأمان فى السفر هى الترمومتر الذى تقرأ من خلاله إلى أين وصلنا وإلى أين نحن ذاهبون، كل الذين سافروا خارج مصر سواء باتجاه آسيا أو أو أوروبا كتبوا عن محطات العواصم التى زاروها ابتداء من الحجز أون لاين وصولًا إلى متعة السفر.
أعرف تمام المعرفة أن مصر الجديدة لا تنقصها الإرادة لاقتحام هذا الملف المهم بل ولا ينقصها التمويل اللازم لتنفيذه، وأزيدكم من الشعر بيتًا أن تطوير القطارات فى مصر هو الضمانة الحقيقية لصيانة شبكة الطرق المحترمة والكبارى والبنية الأساسية التى عملنا عليها فى السنوات الماضية.
ميراث الواسطة فى التعيين وانعدام الكفاءة لا ينتج مستقبلًا، ولكنه يأتى لنا بسائق قطار صديق للمخدرات وشباك حجز تذاكر يبحث عن البقشيش والسمسرة ورصيف انتظار قذر يتقن عمال النظافة فيه فنون التسول بدلًا عن العمل، من الإسكندرية إلى أسوان طول مصر وعرضها ثروة كبيرة مهدرة وشبكة سكك حديدية بالمليارات معطلة تحتاج إلى إبداع وحسم وجدية، فى ظنى لو احتاج الأمر سحب الملف من يد وزير النقل وتسليمه إلى مجموعة عمل من وزارات مختلفة برعاية مؤسسة الرئاسة والجهات الرقابية، بالفعل الملف أخطر من وزارة، فهو اقتصاد وهندسة وفنون وتاريخ واجتماع، لذلك أن تأتى متأخرًا أفضل من ألا تأتى أبدًا... رحمة الله على شهداء الرصيف وأمنيات صادقة بسلامة المصابين.