فى اندفاعه صوب أفريقيا فى أواخر القرن التاسع عشر، استهدف «التكالب الأوروبى» منطقة أفريقيا الاستوائية. قبل ذلك وجد الحضور الاستعماري الأوروبى فى أفريقيا أساسًا فى الشمال (الجزائر)، والجنوب (جنوب أفريقيا)، وبعبارة أخرى كان هذا الوجود مقتصرًا على بضعة جيوب سياسية ساحلية. ولقد كانت أفريقيا الاستوائية، وليس تلك المستعمرات المبكرة، هى التى شهدت تكوين الشكل الأفريقى للدولة الاستعمارية، وجاء ذلك على يد بريطانيا أولًا ثم تقدمت القوى الاستعمارية الأخرى لتتبع خطاها. وفى أعقاب ذلك، سوف تطبق دروس أفريقيا الاستوائية، داخل المستعمرات ذات التاريخ المبكر. من هنا يطرح دكتور محمود ممدانى أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة كولومبيا الأمريكية والحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد الأمريكية، وهو أفريقى من أوغندا، اختير واحدًا من ضمن أكبر عشرين مثقفًا عامًا على مستوى العالم، من جانب مجلة فورين بوليسى الأمريكية وبروسبيكت البريطانية، فى كتاب «المواطن والرعية: أفريقيا المعاصرة وتراث الكولونيالية المتأخرة» والذى نقله إلى العربية المترجم صلاح أبونار والصادر عن المركز القومى للترجمة ٢٠١٨.
للعقبات التى اعترضت طريق الدمقرطة فى أفريقيا، خلال مرحلة ما بعد الاستقلال، فشكلت لحظة التكالب نقطة تلاقى عدة تطورات متداخلة داخلية وخارجية. جاءت نهاية العبودية فى نصف الكرة الغربى كى تؤكد على الضرورة العملية لتشكيل نظام جديد للسياسات الإكراهية ن ولكن هذه المرة داخل الممتلكات الأفريقية الملحقة حديثًا. بعد أن كان القضاء على تجارة العبيد ينطلق من دافع إنساني، جاءت نهاية الحرب الأهلية الأمريكية كى تمنحه طابع الضرورة العملية الفورية، فلقد انتهت تلك الحرب بإعادة توجيه خط سير إمدادات قطن الجنوب الأمريكى فى اتجاه الشمال، الأمر الذى نتج عنه نقص فى إنتاج النسيج القطنى فى أماكن أخرى، وهو ما عرف فى تلك الفترة بــ«مجاعة القطن». وفى مواجهة مأزق النقص الأساسى الذى واجهته صناعة بريطانيا الرئيسية، تكونت الجمعية البريطانية لزراعة القطن فى عام ١٩٠٢، وعندما نصل إلى عام ١٩٠٤ سنجد أن مسألة القطن قد أضحت على درجة من الأهمية كافية لتضمينها فى خطاب الملك. لاحظ ذلك قائلًا: «إن عدم كفاية إمدادات المادة الخام التى تعتمد عليها صناعة القطن أصابنى بقلق عميق»، وبعد ذلك نراه ينتقل للإيضاح: «وإننى لأثق فى أن الجهود المبذولة فى أجزاء كثيرة من الإمبراطورية، من أجل زيادة رقعة الأرض المزروعة قطنا، قد تتمكن من تحقيق قدر كبير من النجاح».
ولقد ساعد هذا السياق المتغير فى ميل أقسام مهمة داخل جماعات الرأسماليين إلى الرأى المناهض للعبودية ولصالح الاستعمار، ومن ثم أصبح الآن فى إمكان الأفريقيين، الذين كانوا بالأمس ينقلون إلى العالم الجديد أن يظلوا داخل بلادهم، وفى الحالتين كان الغرض واحدًا، وهو إنتاج القطن من أجل «المصانع الشيطانية».
وخلافًا للقطن كانت هناك محاصيل استعمارية أخرى، تراوحت بين السكر والمطاط والقهوة والسيزل، وكلها منتجات استوائية ذات أهمية استراتيجية أو اقتصادية فحسب. ولكن وسط تلك المجموعة من المواد الخام التى سوف تغذى الصناعة الأوروبية، كان القطن يقف بينها فخورًا مختالًا. ولقد كان القطن أحد تلك العناصر الثلاثة زعم ليفنجستون «أنها سوف تنجح معا فى بعث الحياة فى أفريقيا جنبًا إلى جنب المسيحية والحضارة». وكانت الجمعية البريطانية لزراعة القطن فى لندن هى النموذج الأصلى للتنظيمات العاملة فى مجال الضغط، من أجل تبنى سياسة رسمية قادرة على تشجيع زراعة المحاصيل الصناعية فى أراضى المستعمرات الاستوائية.
وإذا كانت نهاية العبودية فى الجنوب الأمريكى قد أبرزت الحاجة العملية لنظام من السياسات الإكراهية فى أفريقيا الاستوائية، فإن العناصر الإنسانية والتنظيمية الصالحة لاستخدامها فى تشكيل هذا النظام، لم يكن من الممكن توافرها إلا من خلال التطورات الفعلية التى شهدتها القارة الأفريقية. وكان لهزيمة دول الغزو المدفوع بتجارة العبيد فى القرن التاسع عشر دور أساسى فى تلك التطورات. وفى اللحظة التى قاد فيها هذا التطور إلى نهاية نظام العبودية الرسمية فى القارة، فتح الطريق أمام إمكانية وجود عصر جديد من السياسات الإكراهية خالية من العبودية الرسمية.
أدركت كل قوة استعمارية ذات خبرة أن المستعمر لا يمكن أن تشبه صفحة بيضاء خالية، ومن ثم لا مفر من التعامل مع المادة المتاحة على أرض الواقع، لكن هذا التقييد العملى لا يعنى غياب إمكانية الاختيار، ذلك أن التطورات فى أفريقيا قبل الاستعمارية لم تكن متجانسة أو متماسكة، لكنها كانت متنافرة بل متناقضة. وكان الاختيار الذى انتهت إليه القوى الاستعمارية من قائمة الخيارات المحدودة التى أتاحها الواقع أمامها، حصيلة تأثير مزيج من الضرورة العملية ورؤية تشكلت عبر الخبرة. وإذا كانت طبيعة الضرورة العملية قد أبرزت بأسلوب شديد الحدة نتيجة « لمجاعة القطن « التى أعقبت الحرب الأهلية الأمريكية، فإن رؤية الاستعمار المتأخر قد تشكلت فى مسار الخبرة التى خاضتها القوى الاستعمارية فى القرن التاسع عشر فى مستعمراتها الأقدم عمرًا، وعلى الأخص الآسيوية منها.
تبنى البريطانيون - مثلهم فى ذلك مثل كل القوى الاستعمارية - فكرة وجود نموذج واحد للسلطة التقليدية فى أفريقيا قبل الاستعمار. وكان هذا النموذج ملكيًا وأبويًا وتسلطيًا، وأفترض وجود ملك فى مركز كل حكومة، ورئيس فى كل منطقة إدارية، وأب فى كل عزبة أو قرية، وسواء داخل العزبة أو القرية أو المملكة، كانت السلطة الشرعية، خاصة مرتبطة باستبداد من نمط فردى، وهنا يظهر سؤال: إلى أى مدى كان هذا التصور يعكس تطورات فعلية فى السياق الأفريقى قبل الاستعمارى.
وللحديث بقية