حدثنى بعض الأصدقاء العائدين من الدنمارك فى سهرتنا منذ أيام عن مدينة كسانيدى الدنماركية، كان حديثًا غريبًا لم أستطع تقبله فى البداية، لاسيما وأنا أتذكر رفض العالم لأفكار أفلاطون عن جمهوريته الفاضلة ومن بعده الفارابى عن مدينته الفاضلة، نشأت تلك المدينة كتجربة تحاول فيها حكومة كوبنهاجن أن تثبت للعالم أن الإنسان يستطيع أن يحكم نفسه، وأن الأمن ينبع من رغبة الإنسان فى أن يكون آمنًا طالما كان هذا الإنسان فاضلًا.
لكن هل يمكن لأى أنسان أى يعيش فى هذه المدينة لمجرد أنه يحمل بطاقة هوية دنماركية؟ بالطبع لا، فهناك مراحل يمر بها المواطن حتى يحصل على أحقية الانضمام لهذا المجتمع الشديد النوعية.
عاش جورج أوزوال، أحد مواطنى هذه المدينة- أربعين عامًا من حياته فى كوبنهاجن أهلته لأن يكون أحد سكان هذه المدينة، حصل على تقديرات متميزة فى عمله كموظف حكومي، وقدم خدمات مجتمعية تفيد المجتمع فى مجالات حيوية كالنظافة والصحة، لم تتذمر منه زوجته ولا ولديه ولم يحصل على مخالفة قيادة واحدة، ولم يشكُ منه جيرانه خلال السنوات الأخيرة، وحين أثبت البحث المجتمعى الرسمى ذلك حصل على ما يُسمى بـ«التزكية المجتمعية» وصار من حقه الانتقال للحياة فى كسانيدى مع أشخاص يشبهونه.
يتناسب مجتمع يشبه أوزوال مع نمط الحياة فى مدينة كسانيدي، إذ إن هذه المدينة لا شرطة فيها، ولا لجانا شعبية، ولن تشاهد شرطى المرور فى شوارعها، ولن يصادفك جمعيات خيرية لرعاية المحتاجين، إذ لا يوجد محتاجون، ولن ترى متسولين ولا مشردين، ولا لصوصا ولا متحرشين، إذ إن قيام المواطن بأى مخالفة لقواعد المدينة يكفى لسحب (التزكية) وطرده من المدينة. كل ما سبق دفعهم لتسمية ذلك النمط من المدن بـ«مدن الحكم الذاتي» تفاؤلًا منهم بأن هذه المدينة لن تكون الأخيرة، لذا يعملون على وضع أسس وقوانين لهذه المدن كى تستقل وتزدهر، ويكون انتشارها حافزًا للمواطنين كى يرتقوا بشخصياتهم وسلوكياتهم من أجل أن يكونوا أحد أفراد هذا المجتمع الفاضل.
ربما كانت هذه المدينة هى التطبيق الأول لجمهورية أفلاطون الفاضلة (يوتوبيا) التى خرجت للنور عام ٣٨٠ قبل الميلاد، ولم تحظَ مدينة الحكم الذاتى بتقييم يمكن الاعتماد عليه حتى الآن، إلا أن المطالب بدأت تتصاعد فى أوروبا لأن يكون فى كل دولة مدينة أو مدن حكم ذاتي، وينطلقون فى مطالبهم من فكرة مفادها أن الإنسان يستحق الحصول على فرصة يقدم فيها أفضل نسخة منه للعالم، إذ إن الثقة فى الآخرين قد تخلق لديهم حس المسئولية دون أجهزة رقابية يخشونها إذا ما خرجوا عن حدود قيامهم بمسؤلياتهم تجاه مجتمعهم وتجاه أنفسهم. يرى دعاة هذا الاتجاه أن الفاضل فاضل من نفسه، وكل واحد فاضل وضميره.
أرى أن المثالية ليست من شيم البشر، وأن الكمال لخالق الكمال، لكن الالتزام مبدأ بشرى نستطيع جميعنا أن نعتمده فى سلوكياتنا بنسب مختلفة، لذا لا أعتقد أن تجربة مدن الحكم الذاتى تعد ضربًا من الخيال، ولا أستهجن التجربة الدنماركية هنا، لكن لا يعنى وجود مدينة فاضلة أن من يقيمون خارجها غير فاضلين، فلن يفضل الكثير من الفاضلين أن يبتعدوا عن الحياة الثرية بكل أشكال البشر خارج مدن الحكم الذاتي.