فى مجتمعاتنا العربية نشأنا على بعض السلوكيات والأفكار المرتبطة
بمصطلح الإعاقة، منها النظر إلى الأسرة التى بها طفل معاق على أنها أسرة فى محنة،
أسرة تعانى أكثر من باقى الأسر الأخرى. والبيت الذى يوجد به معاق هو بيت له
خصوصيته، التى يفرضها عليه وجود ابن أو بنت به، وبالطبع تزيد حساسيته الأمر فى
حالة الإناث أكثر من الذكور. نشأنا على نشر مشاعر الحسرة والشجن ونظرات العطف
والعبارات الكئيبة التى نقذفها دونما وعى فى وجوه أمهاتهم أقلها ألما- ربنا يقويكى
يا حبيبتي- ربنا معاكم- لا حول ولا قوة إلا بالله- ماشاء الله ده بيعرف قرايبه-
جميلة بس الحلو ميكملشي- وغيرها من ثراث ثقيل مفاده أن لديك طفل معاق إذن فأنت فى
محنة وأنا أقدم تعاطفى ومواساتى دون أن أفكر لحظة فى تأثير كلامى على الأم أو على
المعاق نفسه، اعتدنا تلك العبارات حتى أصبحنا نقولها كببغاوات لا تعمل عقلها فيما
تقول، نقولها دون أن نمرر أصابعنا على حروفها لنختبر حدتها الجارحة. نقولها ولا
نعلم أن هناك ما يقرب من المليار معاق حول العالم موزعين بين الإعاقة الجسدية
والإعاقة الذهنية بدرجات. نقولها دون أن نفكر فيما جنوه علينا أو آذونا به حتى
نؤذيهم بتعاطفنا الذى مغزاه أنه عاجز وأنا أشفق عليه نقولها دون أن نعرف أن هذه
الشفقة تشعرهم بالنقص، فلا يكون أمامهم سوى الابتسام وقلوبهم تبكى أو عزل أنفسهم
بعيدا عنا فى غرفهم الصامتة، وسجونهم المختارة التى يحتمون فيها من طعناتنا. لم نفكر
لحظة أن سبب ما يعانيه هو كروموسوم زائد أو حصبة ألمانية، مرضت بها الأم وهى حامل
أو حمى شوكية أو نزيف فى المخ أو تعثر فى الولادة أدى إلى نقص الأكسيجين وهو يحاول
الخروج إلى الدنيا هذا هو الأمر. بسيط كأنفلونزا تحدث للآلاف وبشكل عادى، فلماذا
نزيد إيلامهم بالطريقة التى نراهم بها، مما يحملهم عبء إعاقتهم وعبء النظرة التى
ننظر بها إليهم ويعزز لديهم الشعور بالياس وعدم الطمأنينة والهزيمة وربما العنف أو
الجريمة وسوء تقدير الذات. أعترف أن الأمر قد تغير قليلا مع ارتفاع الأصوات التى
تنادى بحقوقهم على مستوى الوطن العربى منذ سنوات، حقوقهم فى المشاركة فى سوق العمل
والزواج وإنشاء أسرة، بالإضافة إلى حق التعليم والرعاية الصحية وحقوق التمثيل
القانونى والتشريعى التى تحميهم من العنف أو الاستغلال، وتغير أكثر مع ازدياد حرص
الأسر على هذه المكتسبات والدفاع عنها لن أتحدث هنا عن مدارس الصم والبكم
والمكفوفين فقط ومدارس التربية الفكرية لن أتحدث عن مبادرات التوظيف من شركات
القطاع العام والخاص بنسبة حددها القانون لكنى سأتحدث عن الجديد المغاير عن دمجهم
فى المدارس والأنشطة المدرسية، حتى يعتادوا التواجد وسط أقرانهم وحتى يعتاد
أقرانهم على وجودهم فيمشون بجوارهم مشجعين ومشاركين لا مشفقين أو متعاطفين. سأتحدث
عن كسر باب اليأس وصنع فتحة فى الجدار لتدخل الشمس منها وبقوة، سأتحدث عن الشمس
ذاتها الشمس التى أراها تطرد أشباح الظلمة والخوف من النظرة المجتمعية للمعاق أو
لأسرته أو من المعاق وأسرته للمجتمع. سأتحدث عن ممر آمن للعبور نبتت على جنباته
الزهور، سأتحدث عن عناية السيد رئيس الجمهورية بهذه الفئة وتوجيهاته التى عززت
وجودهم فى الأنشطة الثقافية وأكدت عليه مما ساهم فى خروجهم للحياة رافعين رايات
الفرح والبهجة التى لم تقتصر عليهم فقط وإنما امتدت لتحيطنا نحن أيضا معهم، رأيت
بعينى الأسبوع الماضى عروضا رائعة فى الملتقى الدولى الثالث لفنون ذوى الاحتياجات
الخاصة بدار الأوبرا. أسعدنى الحظ بمحض الصدفة برؤية جزء كبير من عروضهم، أذهلتنى
الروح الصافية التى كانوا يتعاملون بها وعناية المدربين والتزامهم، أسعدنى غناؤهم ورقصاتهم
الشعبية الصعبة كرقصة الحصان والدبكة على المسرح وفرحهم وتشجيع أمهاتهم وزغاريدهن
والتشجيع الطاغى للمشاهدين وكنت واحدة منهم. لم أر سوى فراشات وزهور على مسرح
الوداعة والبراءة والمحبة والجدية والإصرار رأيت السعادة التى كانت تشع من وجوههم
بفخر وتنطلق لتطبع قبلة على خد الجميع رغم الكراسى التى يتشارك الجميع فى رفعها
إلى المسرح وإنزالها بعد انتهاء الفقرة رغم النظارات السوداء التى تغطى عيون البعض
رغم السماعات التى يختفى جزء كبير منها فى آذانهم رغم الأطفال أطفال وشباب- داون
ساندروم-رأيت الفارق بين التوصيات والفعل بين الأمنيات وتحقيقها بين الجمال كفكرة
وبين تجسيده رأيت الفن الذى درست قواعدة فى أكاديمية الفنون وكيف يتحول إلى روح
ساحرة على مسرح البراءة والنقاء وإثبات الذات والتسامى على الأفكار القديمة
البالية المرتبطة بكلمة معاق على مسرح مفتوح بحرم الأوبرا.
آراء حرة
الأفكار البالية المرتبطة بكلمة معاق
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق