السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الطب عند ابن سينا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن انتقال العلم من مرحلة تاريخية إلى أخرى أكثر تطورًا وارتقاءً يقتضى ليس فقط، تغيير النظريات والمفاهيم، لكن أيضًا تغيير المناهج التى كانت مُسْتَخدَمة دون أن يستتبع ذلك وصف المراحل السابقة بأنها لا علمية. وهناك من الباحثين من ينكر أية جدوى من دراسة تاريخ العلم، ويتساءلون: أليس العلم مجموعة حقائق ثبتت بالبرهان القاطع، فيكون أحدثها أصدقها وأقربها إلى الحقيقة؟ وماذا يعنينا من ماضى العلم؟ إن كان مخالفًا لحاضره فهو خطأ، وإن كان مطابقًا له فما أغنانا عنه. ما جدوى دراسة هذه العلوم التى لا تُصوِّر إلا نسيجًا من الأخطاء؟
هذا ما يقوله بعض الباحثين الذين لا يريدون أن يروا سوى الحاضر الماثل للعيان. ونحن من جانبنا نعارض هذه الوجهة من النظر، ذلك لأننا إذا سلمنا بها فيجب علينا إذن أن نقرر أيضًا إن علمنا الحديث الذى يحظى من العالم كله بالإعجاب والتقدير، سوف يأتى عليه وقت قد يطول أو يقصر؛ يصبح فيه علمًا قديمًا. فالحق أن كل ما يُقَدَّم بين يوم وآخر على أنه هو الحقيقة بأكمل معانيها سوف لا يلبث طويلًا حتى يُضْرَب به عرض الحائط، لتحتل مكانه تصورات جديدة، كثيرًا ما تتعارض مع ما سبقها، فهل يحق للمرء حينئذ أن يصف علوم عصرنا بأنها كانت لا علمية؟
على ضوء ذلك سوف نحاول تقييم كتاب «القانون فى الطب» لابن سينا. وهو من الكتب العالمية، مثله كمثل «المبادئ» لإقليدس و«المجسطي» لبطليموس. هذه الكتب تمثل غاية العلم القائم على نوع خاص من التفكير. فيها حل لكل المشاكل المتعلقة بموضوعها بحيث لا يجد دارسوها حاجة إلى الزيادة فيها أو تغييرها. ومن مظاهر الحضارات القديمة كلها أنها بطبيعتها تجعل من السهل أن يبلغ العلم فيها غايته بسرعة، ويقوم من العلماء من يبلغون الغاية فى كل شىء ويلمون بكل نواحى العلم، وهذا من طبيعة التفكير التقليدى ولا محل له فى الحضارة الحديثة، فلن يقوم بيننا مثل «أرسطو» أو «ابن سينا»، لا لأن عقولنا أقصر منهم جهدًا - بل لأن طبيعة العلم الحديث لا تسمح لنا أن نلم بغاياته ونبلغ حدوده، أما التفكير القديم فكان قائمًا داخل حدود معيَّنة معروفة لم يكن لأحد أن يخرج عنها. ومن مظاهر التاريخ العلمى فى العصور القديمة أنه حين يبلغ غايته بظهور أمثال «ابن سينا» فذلك بدء النهاية، لأن الذين يأتون بعد هؤلاء يكونون عالة عليهم، ويمضى بعد ذلك وقت يختلف قصرًا وطولًا ثم ينضب معين الفكر ويبدأ الانحلال.
أما كتاب «القانون فى الطب» فهو أعظم مصنفات «ابن سينا» بلا مراء، فهو كتاب كبير، غزير المادة، جامع للطب بفروعه المختلفة، لم يترك شاردة إلا أوردها فيه، وقد طبقت شهرة هذا الكتاب الآفاق فى عصره وفى غير عصره، وهو منظم جدًا، بل فيه إسراف فى التنظيم والتقسيم، فاق تنظيمه المنهجى ما كان عليه كتاب «الحاوي» للرازى.
ويسمى «ابن سينا» كتابه، فى بدايته (بالقانون فى حد الطب)، ويدل هذا الاسم على الطموح البعيد الذى كان يريده «ابن سينا» لكتابه، وذلك بأن يكون القاعدة الفاصلة للطب عن بقية العلوم، وأن يكون كتابه دستور الأطباء، يعودون إليه كلما استعصت عليهم مشكلة ليجدوا فيها الحد الفاصل للنقاش، وليظل خالدًا أبدًا. ولقد استطاع «ابن سينا» أن يحقق ذلك، إذ ظل الكتاب دستور الأطباء وطلاب الطب، فترة جاوزت الخمسة قرون فى أكبر المراكز العلمية فى العالم. وكانت آخر كلية طب تدرسه هى كلية مدينة لوﭬان البلجيكية فى منتصف القرن الثامن عشر.
يقول «بول دومتر» Paul Dumaitre فى محاضرته التى ألقاها فى الجمعية الفرنسية لتاريخ الطب فى 5 مايو 1951:
«يُعَد ابن سينا العالِم العظيم والفيلسوف والطبيب، من أكثر وأكبر المؤلفين المنتجين، ظلت نفائسه موضع اهتمام أساطين العلم، خلال خمسة قرون كاملة، أما قانونه فيُعَد موسوعة كاملة فى الطب، عانق فيه «ابن سينا» كل العلوم الطبية مع بعضها، فليس من العجيب بعد هذا أن يظل قانون الشيخ الرئيس، الدستور الطبى العلمى العملى طوال خمسمائة سنة فى بلاد المسلمين والعرب، وكثير من أرجاء أوروبا، ولا نغالى إذا قلنا إن عالَم التأليف والتصنيف، لم يقع على كتاب من نوعه بمثل سعته وتصنيفه، واشتماله على الكبيرة والصغيرة».
يقول «نوبرجر» Neuburger فى كتابه المطول عن تاريخ الطب:
«إنهم كانوا ينظرون إلى كتاب القانون كأنه وحى معصوم، ويزيدهم إكبارًا له تنسيقه المنطقى الذى لا يُعاب، ومقدماته التى كانت تبدو لأبناء تلك العصور كأنها القضايا المسلمة والمقررات البديهية».
ويقول «جيرار دى كريمون» Gerard de Cremone، وهو الذى نقل القانون إلى اللغة اللاتينية فى القرن الثانى عشر:
«لقد قضيت نحوًا من نصف قرن، فى تعلم اللغة العربية، والتوفر على ترجمة نفائس المكتبة العربية، وكان كتاب قانون للشيخ الرئيس ابن سينا، أعظم كتاب لقيت فى نقله مشقةً وعناءً، وبذلت فى ذلك جهدًا جبارًا». ولكن هذا الناقل، لقى جزاءه فى جهده، فقد ظل علماء القرون الوسطى يقرأون ابن سينا فى ترجمة «جيرار دى كريمون»، ردحًا غير قليل من الزمن، ثم تُرجم القانون مرات عديدة، كان أفضلها، فى أوائل القرن السادس عشر، من قِبَل «أندريا ألباجو» Andrea Alpago بعد أن قضى ثلاثين سنة فى الشرق، وزاد على من سبقه أن وضع قاموسًا للمصطلحات الفنية العربية التى كان يستعملها «ابن سينا»، ونُشِرَت هذه الترجمة عام 1527، ثم أُدخِلَت تحسينات كبيرة على القانون، وظلت ترجمة «جان بول مونجيوس» Jean Paul Mongius الترجمة الوحيدة التى كان يعتمد عليها أساتذة وطلاب الطب فى العالم، وآخر ترجمة له، كانت فى غضون القرن الثامن عشر، قام بها الأستاذ «بلامبيوس»Plempiu زاد على من سبقه بتعليقات وشروح بل فى بداية القرن التاسع عشر كانت تُلقى عنه محاضرات فى كلية الطب فى «مونبليية».
وعلاوة على ذلك كتب «ابن سينا» كتابًا عن «علاجات القلب»، بل وكتب عددًا من المنظومات الطبية، إذ إن نصف مؤلفات «ابن سينا» الطبية (ثمانية منها) جاء على شكل شعر منظوم (الأرجوزة) فى مواضيع مختلفة مثل أعراض وعلامات اقتراب النهاية بالموت، الوصايا الصحية، العلاج المُجَرب، مذكرات فى التشريح وما أشبه، ومن مؤلفاته المهمة أيضًا فى مجال الطب رسالته فى الأدوية الطبية. و«القانون» أكبر مؤلفاته وأشهرها، إذ يحتوى هذا الكتاب على أقل قليلًا من مليون من الكلمات.