أذكر أن الرئيس عبدالفتاح السيسى قال ذات مرة إنه كلما وضع يده فى مكان وجد مشاكل من كل صنف ولون وفساد لا أول له ولا آخر، لذلك توجه من فوره إلى العمل على ميكنة أغلب الخدمات التى تقدمها الأجهزة التنفيذية اعتمادًا على التكنولوجيا الحديثة للتخفيف من الآثار السلبية الحادة لأمراض البيروقراطية المصرية، ولتحجيم مختلف صور الفساد التى لم يستثن من تعريفه الإهمال والتقاعس.
قد نتفهم استمرار معاناة المواطنين عند تعاملهم مع بعض الهيئات الحكومية والأجهزة التنفيذية المحلية، فلا يزال مشوار الميكنة فى خطواته الأولى، لكن ما لا يمكن تفهمه استمرار هذه الأوضاع بكل تفاصيلها المقيتة داخل الأجهزة والهيئات الحكومية المعنية بإدارة شئون الاستثمار فى ظل سعى الدولة الحثيث لتشجيع المستثمرين المحليين والأجانب على ضخ أموال داخل شريان الاقتصاد المصرى وبناء مشروعات صناعية وزراعية تزيد من قدرة المجتمع على الإنتاج وتتيح المزيد من فرص العمل.
قصة المستثمر على محمد على مع هيئة التنمية الصناعية التابعة لوزارة التجارة والصناعة تقدم نموذجًا حيًا لحجم ما ترتكبه البيروقراطية من خطايا مع سبق الإصرار والترصد.
عشر سنوات كاملة لم تكن كافية لإنهاء معاناة الرجل مع الروتين والإهمال والتقاعس، بل إن كل توجيهات الرئيس بتذليل الصعوبات أمام المستثمرين الجادين، وكل القوانين والتشريعات التى صدرت فى هذا الشأن لم تكن مبررًا أو حافزًا للمسئولين فى هيئة التنمية الصناعية للتخلى عن عبادة الروتين، والتخلص من صفات التكاسل والبلادة التى يتخذونها منهجًا فى إدارة شئون البلاد والعباد.
فى سبتمبر من عام 2009، قام على محمد على، بشراء مصنع للأعلاف والمنتجات البيطرية بالمنطقة الصناعية الأولى فى مدينة دمياط الجديدة من البنك العقارى المصرى العربى، والذى كان وضع يده بموجب أحكام قضائية على الأرض والمبانى فى عام 2002 لاستيفاء مستحقاته المالية من الشركة المصرية للمنتجات البيطرية التى كانت قد حصلت على الأرض بموجب قرار تخصيص من جهاز مدينة دمياط الجديدة عام 1997، لكن الشركة تعثرت ماليًا، ولم يستطع أصحابها الاستمرار فى المشروع.
وبعد ذلك بسنوات أعلن البنك عن بيع مبانى المصنع وماكينات الإنتاج فى ممارسة عامة وفاز على محمد على بالمصنع وقام بسداد كامل ثمنه للبنك، وتوجه إلى هيئة التنمية الصناعية طالبًا إلغاء قرار تخصيص قطعة الأرض المشار إليها لأصحاب الشركة المصرية للمنتجات البيطرية، وذلك لانتفاء علاقتها بالأرض منذ عام 2002 إلا أنه فوجئ بموظفى التنمية الصناعية يخبرونه باستحالة إعادة تخصيص قطعة الأرض له، بسبب استمرار تخصيصها للشركة المذكورة.
واستمر تعنت الهيئة منذ ذلك الحين وحتى الآن مستندة إلى نفس الحجة، ما يعنى أنها لا تتابع ما يجرى فى المناطق الصناعية الخاضعة لولايتها واكتفت بالبيانات المسجلة فى أوراقها ودفاترها عملا بقاعدة «المهم تستيف الأوراق» بغض النظر عما يجرى فى الواقع.
الغريب أن كلا من المستشارين القانونيين لوزير الصناعة ورئيس هيئة التنمية الصناعية وطبقًا للوثائق والمستندات التى بين أيدينا، قد أوصيا بإعادة التعامل على قطعة الأرض استنادًا للقواعد القانونية التى توجب سحب قرار التخصيص الأول لعدم التزام أصحابه بشروطه.
ويؤكد على محمد على أنه يسعى لتقنين أوضاعه للحصول على ترخيص وسجل صناعى حتى يباشر عملية الإنتاج وحتى لا تضيع أمواله التى دفعها لقاء الحصول على هذا المصنع، موضحا أنه دون جدوى أرسل عدة مذكرات لكلا من وزير الصناعة الحالى المهندس عمرو نصار، ورئيس هيئة التنمية الصناعية المهندس مجدى غازى ووصل به الأمر إلى مخاطبة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس هيئة الرقابة الإدارية.
هذا المستثمر مجرد نموذج لحالات متكررة أهدر الإهمال والروتين استثماراتهم وربما «تحويشة العمر» التى فضلوا تشغيلها فى مشروع إنتاجى على إيداعها بأحد البنوك لتحريك عجلة الإنتاج وتوفير المزيد من فرص العمل وقطعًا ربما لجأ بعضهم إلى تشغيل مصانعه دون انتظار للتراخيص والسجلات الصناعية لينضموا مرغمين إلى ما يعرف بالاقتصاد غير الرسمى البعيد عن أعين الرقابة ناهيك عن الضرائب.
هذا النموذج يعكس ما تعانيه هيئة التنمية الصناعية من مشكلات داخلية رصد الاتحاد النوعى للجمعيات الاقتصادية بعضها فى استطلاع رأى أجراه مع عدد من المسثمرين وأصحاب الأعمال الصيف الماضى كان من نتائجه، «ضعف قدرات الهيئة فى تنفيذ القانون بشأن تيسير إجراءات منح تراخيص المنشآت الصناعية فى مواعيدها، وعدم توافر فروع للهيئة فى مختلف المحافظات، حيث أفاد بعض المشاركين من محافظتى بورسعيد والمنيا بأنهم يضطرون للسفر إلى محافظات مجاورة أو القاهرة لإنهاء إجراءات التراخيص، وتراجع عدد الموظفين فى مكاتب الهيئة الموجودة ببعض المحافظات، علاوة على ضعف قدراتهم وعدم إلمامهم بالقوانين واللوائح المنظمة، وعدم قدرتهم على التعامل الجيد مع المستثمرين».
وبين يدى وثائق تقدم تفسيرًا لضعف أداء الهيئة وعشوائيته يتعلق بعضها بطريقة اختيار القيادات فى المناصب الإدارية العليا، وبعضها الآخر بقرارات غير مدروسة، منها القرار رقم 50 بندب أحد المهندسين لشغل وظيفة رئيس الإدارة المركزية للسياسات والاتفاقات الدولية وتجديد انتدابه عدة مرات بعد رسوبه فى الاختبار المؤهل لشغل هذه الوظيفة أمام اللجنة الدائمة لاختيار القيادات بحصوله على 48.2% فقط وتأكيدها على عدم صلاحيته لهذه الوظيفة.
الأدهى من ذلك أنه تم انتدابه ليعمل كرئيس للادارة المركزية للشئون الفنية بقرار مفتوح المدة، وبعيدًا عن أى اعتبارات غير قانونية قد تقف وراء صدور هذه القرارات إلا أنها تشير إلى مدى ضعف مهارات موظفى الهيئة وعدم حصولهم على دورات تدريبية مكثفة لرفع مستوى أدائهم مما يضطر رؤساؤها تحت قيد القوانين واللوائح إلى انتداب أفضل الراسبين لتولى المناصب القيادية بها.
ومن الوثائق أيضا القرار الإدارى رقم 192 الذى اتخذه مجلس إدارة الهيئة لرفع قيمة الرسوم المعيارية بشكل كبير، مقابل الخدمات التى تقدمها الهيئة للمستثمرين بقطاع التراخيص والخدمات الصناعية، وهو القرار الذى اعترض عليه رئيس الوزراء السابق المهندس شريف اسماعيل وطلب من وزير الصناعة السابق طارق قابيل مراجعته وبالفعل تراجعت الهيئة، لكنها قامت بتخفيض قيمة بعض الرسوم فى 3 مناطق صناعية فقط بمدن بدر والسادات وبورسعيد وقد اعترض رئيس الوزراء الحالى دكتور مصطفى مدبولى أيضا على القرار وطلب من وزير التجارة والصناعة الحالى عمرو نصار مراجعته، مثل هذه القرارات العشوائية إضافة إلى أنها تزيد من حجم الأعباء على كاهل المستثمرين لاسيما الصغار، فإن اتخاذها ثم التراجع عنها على هذا النحو يسبب حالة من البلبلة وعدم الثقة بين المستثمرين وأجهزة الدولة.
Ali.elfateh2017@gmail.com