كانت وستظل كرسائل فن وتواصل لها دلالات لن تمحى من ذاكرة من عاشوا لحظاتها فى ميادين وشوارع الثورة الليبية، هو فن تعبيرى تجاور مع فعل الثورة الاحتجاجي، فعلى امتداد الحوائط أسوار وصبات حواجز، قبضت أيادى فنانين محترفين وهواة بأكثر من مدينة ليبية على فرش وبخاخات وأطلقوا رسوماتهم، طفقوا يعلنون مشاعرهم واختلاجاتها ساعة فبراير 2011م، وحتى تحرير البلاد من أسر نظام شمولى واجه ثورة سلمية بإعلان توزيع السلاح ليصير فى كل يد ما جعل خيار الحرب الأهلية جبرا لأجل الخلاص، كان ميدان التحرير (الحرية) ببنغازى، معرض ثورة حى لما يزيد على العام، يلتقط الصور كل عابر محتفى من مناطق ليبيا (كنت فى زيارته نوفمبر 2011م) وكذا ضيوفا من خارجها، تذكارا لوقائع مفارقة فى تاريخ شعب، وتوثيقا لفن انبثق دون مشروطية منهج أو مدرسة أو قواعد، لمن رسموا ما عاشوا، رسموا ما حلموا به، حكايا مستعادة لواقع مظلم لمن كتم على أنفاسهم، خطوطا وأشكالا هندسية حنت لعلم البلاد المرفرف فرحا، والذى توافق الليبيون عليه فى دستورهم 1951م، ثم أقصى دون سبب غير نفى كل قاعدة وفاق للناس ليسود الخيار الأوحد للحاكم المتسلط، لوحات كاريكاتيرية، جرافيك، وحروفيات، وتعابير ملفوظة كتموها، ووجدت سانحتها لحظة ثورتهم، بعضها كُتبت فأخطأت طريقها فى الإملاء وشابتها أخطاء فضحت مستوى تعليم جيل النظام، بالتأكيد لم يكونوا بعمر شهر أو عام أو أعوام «فبراير الثورة والتغيير العسير»، من أظهروا معايب خطوطهم وإملائهم علنا كانوا ضحايا منهجية لم تلق بالا لتعليم وثقافة تؤسس لمن ينطق كما يكتب بفصاحة وسلامة لغة.
بنغازى مدينة الثورة عمرت ساحتها بجماليات صارخة بالثورة والحرية، طرابلس عاصمة البلاد فى أهم شوارعها وأزقتها، بل على امتداد سور بيت الطاغية من ثاروا عليه كان الفن أداة من أدوات الإعلان وإجابة عن سؤال من أنتم؟ لوحات ثورة الفنانين والهواة تجسدت فى مدن وقرى خرجت محتجة حادت بها جدران مدينة الثورة وعاصمة البلاد: «زواره، مصراتة الزنتان، سبها، درنة، البيضاء،طبرق»، ما وثقته عيون الكاميرا وصارت فرجة الناس والعالم عبر الوسائط الإلكترونية إلى يومنا هذا، وظهرت إصدارات جمعت صورا لتلك اللوحات علها تكون يوما محل دراسة وبحث، منها كتاب للأستاذ عبدالرزاق العبارة، وكيل هيئة الثقافة والإعلام.
كيف هدموا حاجز الخوف والرعب، وحملوا الريشة وبخاخ الألوان فيمن رفع السلاح صوبهم لحظتها؟ كانوا لحظتها مشروع شهادة، فرجال الطاغية يرصدون كل معارض بصوته، فما بالك بمن يرسم على جدارن ميدان الشعب وشوارعه، كان قيس الهلالى الشاب الثلاثينى من جرؤ وجاهر، وأحال رأيه الحر إلى بوح فنى يصدح من على جدار يؤمه الناس، وعلى كراس تقع عليه عيون الأصدقاء والمعارف كل صباح، كان الشاب «قيس» من تجرأ رسما لبورتريهات ساخرة لطاغية العصر، فقدم روحه شهيدا حين مزق الحُجب، تجاوز الخط الأحمر لمن يقف عنده كل قول، فيطلُع من يجسدهُ عاريا على حقيقته، اليد التى اغتالت قيس منحته صك الشجاعة لأول فنان شاب فى تاريخ البلاد يُوجع الطاغية رأى عينه، الذى عيش شعبه الوجع المر مبتسما أمام مشهد شهدائه ومبتوريه من الشباب!، فى سيرة «قيس» أنه يرسم للمرة الأولى، هكذا شغف مطلقا العنان لمخيلته وخبطات ريشته، فمن الحدث المفارق تولدت اللوحات والتى كانت متقنة مظهرة وصفا فى تعليق بمقدمة شريط بُث عن مقابلة معه بقناة ألمانية، فى حديث أمه أنها تقدمه شهيد ريشته لوطن يستحق، وفيما حفظ من تسجيل صوتى له عبر المقابلات، قال «ريشتى أنا وأنا ريشتى التى آن لها أن تخرج من محبسها حرة طليقة، ولى أن أتنفس الحق فى الرأى والتعبير الذى تضمخ بدم الشباب، وليس لى أن لا أكون صنوهم شهيد ريشتي».