ظهرت وتشكلت النخبة القبطية فى عهد محمد على وما بعده، كما سبق وأشرنا، فى ظل خدمة الحكام والأمراء، فبطرس غالى تبوأ منصب رئيس وزراء مصر من ١٢ نوفمبر ١٩٠٨ وحتى اغتياله فى ٢١ فبراير ١٩١٠، وكان والده نيروز باشا غالى ناظرًا للدائرة السنية لشقيق الخديو إسماعيل فى الصعيد، وبطرس غالى عندما كان وزيرًا للعدل كان قد اتهم بمحاباة الإنجليز حين صدق على أحكام محكمة دنشواى التى حكمت بإعدام ستة فلاحين مصريين، وحين كان وزيرًا للخارجية كان قد صاغ ووافق على اتفاقية الحكم الثنائى «الإنجليزي، المصري» للسودان أم بعد شغله منصب رئيس وزراء مصر كان قد وافق على تمديد امتياز شركة قناة السويس ٤٠ عامًا إضافية من ١٩٦٨ إلى عام ٢٠٠٨ فى نظير أربعة ملايين جنيه، تُدفع على أربعة أقساط، وكان محمد فريد «الحزب الوطني» قد تمكن من الحصول على نسخة من المشروع فى أكتوبر ١٩٠٩ ونشرها فى جريدة اللواء، ووقتها طالب الحزب الوطنى بعرض المشروع على الجمعية التشريعية، وتحت الضغط تم العرض، وتم رفض المشروع. وهنا توجهت لبطرس غالى عدة انتقادات مثل قانون المطبوعات، إضافة إلى ما سبق من اتهامات، لذلك أصبحت سياسة بطرس غالى بؤرة لنقمة الوطنيين المصريين فى الوقت الذى نضج فيه الشعور الوطنى المصري، خاصة بعد هبة عرابى التى انتهت بالاحتلال البريطانى لمصر فظهر شعار «مصر للمصريين».
وفى الوقت نفسه كان المناخ الطائفى فى أوج توهجه، حيث إن المناخ السياسى الوطنى الذى ارتبط بمصطفى كامل كان ذا خلفية إسلامية وتحت ظل الخلافة الإسلامية العثمانية فى مواجهة الإنجليز بشعار «مصر للمسلمين»، الشىء الذى وَلد فرزًا طائفيًا خلق نخبة قبطية رافضة لهذا الشعار المساند للعثمانيين ومتعاطفًا مع الإنجليز فى مواجهة الحكم العثماني، وكان ذلك الموقف امتدادًا لموقف ما يسمى الجنرال يعقوب، ذلك الرجل الذى تمتد أصوله إلى أسيوط، الذى ساند الحملة الفرنسية فى مواجهة الحكم العثمانى، ضد الإجماع المصرى الذى رفض الحملة، وظهر رفضه جليًا فى ثورة القاهرة الأولى والثانية، حتى إن يعقوب هذا كان قد غادر البلاد مع الفرنسيين ومات فى عرض البحر. وفى هذا المناخ الطائفى المتوتر وفى ظل تلك الاتهامات التى وجهت إلى بطرس غالي، قام إبراهيم الوردانى، وهو عضو الحزب الوطنى المتأثر بسياسة وشعارات مصطفى كامل المساند للعثمانيين ضد الإنجليز، قام الوردانى باغتيال بطرس غالى فى ظهر ٢٠ فبراير ١٩١٠، هنا كانت حادثة الاغتيال تتويجًا واستكمالًا لحوادث وأحداث ومناخ طائفى تمثل فى تلك المعارك الطائفية على صفحات الصحف الإسلامية فى مواجهة الصحف المسيحية، فكانت معارك طائفية استقطابية بامتيار، ناهيك بأن الاحتلال البريطانى منذ ١٨٨٢ كان قد وجد مناخًا مواتيًا لبث الفرقة بين المصريين، ما شجع وحفز على ظهور أحزاب قبطية مساندة للإنجليز مثل حزب «أخنوخ فانوس» الذى شكله كحزب ديني مسيحي لمساندة الإنجليز، ولذلك قد استغل فانوس اغتيال بطرس غالى باعتباره مسيحيًا، فقاد بعض النخبة المسيحية لمواجهة الأحداث، فأسس هيئة برئاسته باسم «مجتمع الإصلاح القبطي»، وأصدر البيانات التى يدعو فيها إلى المساواة بين المسلمين والمسيحيين، فانضم إليه العشرات من الأقباط، ولكن العقلاء من المسيحيين، وهم الأغلبية، هاجموا أى اتجاه للشقاق وحذروا منه، إلا أن فانوس وقرياقوص ميخائيل أنشآ فى لندن مكتبًا للدعاية والإعلان وقاما بالاتصال بأعضاء من مجلس العموم البريطانى ليدعوا إلى عقد مؤتمر قبطي، ما جعل مجلس العموم والصحف البريطانية الصادرة فى القاهرة يأخذان على عاتقهما تلك الدعوة، فقام المندوب البريطانى بزيارة لعدد من محافظات الصعيد ذات الكثافة السكنية المرتفعة من الأقباط لكى يشعل نار تلك الحركة، حيث قام بضم سائر القوى التى كانت بعيدة عنهم، وعليه وردت الأوامر من لندن إلى المعتمد البريطانى بالسماح بعقد المؤتمر القبطى فى ٦ مارس ١٩١١ عقد المؤتمر فى أسيوط برئاسة بشرى حنا وقام بالصرف على المؤتمر أخنوخ فانوس وناقش المؤتمر مشاكل الأقباط ومطالبهم التى تبلورت فى «المساواة فى المناصب، التمثيل النسبى فى المجالس النيابية، تقرير يوم الأحد عطلة رسمية، مساواة الشئون القبطية مع الإسلامية فى إنفاق الميزانية العمومية». وهنا فى ظل هذا المناخ المتوتر طائفيًا رد المسلمون على المؤتمر القبطى بمؤتمر آخر فى ٢٩ أبريل ١٩١١، وأعلن المؤتمر أنه لمناقشة المسائل العامة التى تشغل الرأى العام ومنها ما يسمونه مطالب المسيحيين، لأن حالة البلاد لا تسمح بتقسيم المصالح بين أبنائها لانقساماتها الدينية.
هنا شرح لطفى السيد أن الغرض هو النظر فى التوفيق بين العناصر المؤلفة للوحدة المصرية التى كاد يتصدع بناؤها من جراء مؤتمر المسيحيين مستنكرًا إرسال المبعوثيين منهم إلى إنجلترا لبث الشكاوى التى لا تكشف إلا عن عصب المسلمين على المسيحيين، وذكر لطفى السيد أن الشكل الذى اتخذه هذا المؤتمر مريب فى ذاته ويعول على أن يكون المسيحيون أمة مستقلة، وأضاف أن المؤتمر هذا يقدر مطالب المسيحيين بميزان العدل وبيان النافع منها والضار والممكن وغير الممكن، وقال إن الخطأ الفادح هو تقسيم الأمة إلى عنصريين دينيين، وهذا التقسيم يستتبعه تقسيم الوحدة السياسية إلى أجزاء دينية.
هكذا كان الحال والمناخ الذى عبر عن واقع طائفي، مؤتمر قبطى فى مواجهة مؤتمر إسلامى، ولكن فى كل الأحوال لا بد أن تظهر الجينات التاريخية القابعة فى الضمير الجمعى المصرى والتى تمثل نقطة الضوء الخافتة، لكنها المستمرة أبدًا، فكان هناك العقلاء من هنا ومن هنا، فهناك العقلاء الذين رفضوا مسلك أخنوخ فانوس ومن هم على شاكلته، وهناك العقلاء من المسلمين، الذين حاولوا أن يجعلوا المؤتمر الثانى مؤتمرًا مصريًا، وليس طائفيًا، يناقش أيضًا المطالب والمشاكل القبطية فى إطار الوحدة المصرية التى ترفض الاستقواء بالخارج والتى تدعو إلى القسمة، ولا شك أنه قد كان على رأس هؤلاء العقلاء لطفى السيد، ذلك الرجل الوطنى الذى قدم مصريته الجامعة على الطائفية الممقوتة، وهو صاحب شعار «مصر للمصريين»، هذا الشعار وأولئك العقلاء هم شرارة الانطلاق لهبة ١٩١٩ التى كان شعارها «الدين لله والوطن للجميع».. يتبع فى الأسبوع المقبل بإذن الله.