عادت مصر إلى صدارة المشهد الأفريقي، وتولى الرئيس عبدالفتاح السيسى رئاسة الاتحاد الأفريقى، وبدأت تعود العلاقات المصرية الإثيوبية إلى الدفء والتفاهم، وها هى مصر تأخذ موقعها الذى تستحقه فى ريادة أفريقيا، وتعطى لأفريقيا ما تستحقه من دعم سياسى واقتصادى وعلمى وطبي، وأن تلعب الدور الذى تنتظره القارة فى بناء جسور الثقة وتقديم الدعم الفنى واللوجيستى لتنمية بلدان القارة، وأن يحل التعاون محل التنافس، وأن يحل الوئام محل الخصام، وأن ينعم كل أبناء القارة بخيراتها، وأن تحقق القارة السمراء التنمية المستدامة التى تستحقها.
وبمناسبة انعقاد قمة الاتحاد الأفريقى فى أديس أبابا برئاسة الرئيس السيسى، وانعقاد قمة ثلاثية مصرية- سودانية- إثيوبية، والاتفاق على تسوية الأمور المتعلقة بتشغيل سد النهضة الإثيوبى، بما لا يضر بمصالح مصر، قررت أن أكتب عن مصر وإثيوبيا وآفاق التعاون المشترك لتحقيق التنمية المستدامة ليس فقط لمصر وإثيوبيا، ولكن أيضا لكل دول القارة الأفريقية.
وبداية، أعترف بأن معلوماتى عن إثيوبيا كانت قليلة وغير دقيقة، إلى أن قرر الاتحاد الدولى لأمراض النساء والتوليد (الفيجو) إقامة مؤتمره لقارة أفريقيا فى أديس أبابا فى أكتوبر ٢٠١٣، وتمت دعوتى مع عدد كبير من أطباء النساء والتوليد المصريين للمشاركة، وذهبت ضمن وفد من الزملاء إلى أديس أبابا، وكانت مناسبة مهمة جدا لاستكشاف هذا البلد المهم جدا لمصر وأفريقيا، وعقدنا على هامش هذا المؤتمر عدة لقاءات وزيارات غيرت نظرتى إلى إثيوبيا.
اللقاء الأول كان مع وزير الخارجية الإثيوبى فى ذلك الوقت (تدروس أدهنوم)، وهو طبيب معروف على المستوى الدولي، وحاصل على الدكتوراه من كلية لندن للصحة العامة، وله أبحاث دولية فى مجال الملاريا، وكان وزيرا للصحة، ونجح فى إحداث نقلة نوعية فى مجال وفيات الأطفال والأمهات، قبل أن يصبح وزيرا للخارجية، وحاليا يشغل منصب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية من يوليو ٢٠١٧ ولمدة خمس سنوات، وجاء لافتتاح المؤتمر، وتحدث بلغة طبية ودبلوماسية جيدة، وركز على أهمية تنمية أفريقيا، وأهمية دول أسفل الصحراء الكبرى وبالأخص نيجيريا، الدولة الأكبر فى أفريقيا، وجنوب أفريقيا، الدولة الأكثر تقدما، وإثيوبيا، دولة المقر للاتحاد الأفريقي، ومركز اتخاذ القرار السياسى فى القارة، وتناسى تماما الدول العربية وبخاصة مصر، مما أصابنى بالغيظ الشديد.
أما اللقاء الثاني، فكان دعوة على العشاء فى منزل السفير البريطانى لكل أعضاء الكلية الملكية لأطباء النساء والتوليد من مصر والعالم، وحضر معى عدد غير قليل من الأطباء المصريين، وفى كلمته قال السفير البريطاني، إن حكومة ملكة إنجلترا تولى أهمية كبرى لتنمية إثيوبيا والنهوض باقتصادها وتعليمها باعتبارها مفتاحا للقارة الأفريقية ومركز السياسة الأفريقية والمقر الدائم للاتحاد الأفريقي.
وهذا الحديث، أكد للحاضرين أن مركز اتخاذ القرار فى القارة قد انتقل من القاهرة إلى أديس أبابا، وأن الدول العربية قد فقدت ثقلها السياسى والاقتصادى مع استمرار تداعيات الربيع العربي، وهو ما زاد من حزنى وغيظى من موقف إنجلترا أيضا.
واللقاء الثالث كان فى مقر السفارة المصرية بدعوة من السفير محمد إدريس، وهو طبيب أيضا، وحاليا يشغل منصب مساعد وزير الخارجية للشئون الأفريقية، وحضرت اللقاء وزيرة الصحة المصرية فى ذلك الوقت «ا.د. مها الرباط»، التى كانت تشارك فى ملتقى وزراء الصحة الأفارقة، وكانت سهرة طويلة امتدت عدة ساعات، ودارت حوارات ساخنة حول الأحداث السياسية فى مصر عقب ثورة ٣٠ يونيو وخلع الإخوان من حكم مصر، وعرضت السفارة فيلما وثائقيا عن الأحداث وتعليقا للدكتور جابر جاد نصار أستاذ القانون على الأحداث، وبعدها حدث هجوم من بعض المدعوين الإثيوبيين على سياسة مصر.
وعندها شعرنا بالغيظ، وأن صورة مصر مركز الثقل والثقافة وقاطرة العلم فى أفريقيا قد اهتزت كثيرا بسبب الأحداث التى أعقبت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، وتحدث السفير وبعده وزيرة الصحة عما حدث فى 30 يونيو تلبية لدعوة المصريين، ثم طلبت الكلمة من السفير ووافق، وقلت إن ما حدث ثورة حقيقية شارك فيها الملايين من أبناء الشعب المصرى، وأنا واحد منهم، بعدما فشل الإخوان فى إدارة شئون البلاد، وفرقوا أهلها شيعا وأحدثوا كوارث فى الحياة اليومية للمواطن المصري، وفشلوا فى السياسة الخارجية، وضربت مثالا لذلك بما حدث فى لقاء مرسى مع مجموعة من مستشاريه فى لقاء مذاع على الهواء مباشرة بمناسبة سد النهضة، ومدى المراهقة السياسية وقلة الخبرة التى تدار بها الأمور، واستحالة استمرار هذا الوضع فى بلد كبير مثل مصر.
وفى زيارتنا للمتاحف والمستشفيات والمزارات فى أديس أبابا، اكتشفت أن إثيوبيا بلد فقير جدا، وليس له أى موارد سوى الزراعة والثروة الحيوانية، وأنه بحاجة ماسة إلى التنمية، ولكنه بلد يشبه مصر فى ظروف كثيرة، حيث تعداد سكان أكثر من ١٠٠ مليون، ومساحة أرض أكثر من مليون كيلو متر مربع، وتاريخ إنسانى وحضارى لآلاف السنين، وأن أقدم إنسان سكن الأرض قد عاش فى إثيوبيا قبل أكثر من مليون سنة، وأن هناك اعتقادا أن الإنسان الأول هاجر إلى مصر، ومنها إلى قارات العالم القديم، وأن إثيوبيا لها تاريخ حضارى وإمبراطورى ممتد لآلاف السنين، وأن الملكة حتشبسوت قد بعثت قوافل إلى بلاد بونت (الصومال وإثيوبيا)، وأن الكنيسة المسيحية الأرثوذكسية ظلت تتبع الكنيسة المصرية وتدين لبابا الإسكندرية منذ القرن الرابع الميلادى وحتى عهد قريب جدا، وأن أول المهاجرين من المسلمين ذهبوا إلى الحبشة عند النجاشى للهروب من أذى المشركين فى مكة، وأن عدد المسلمين فى إثيوبيا يزيد على ٣٠ مليون مسلم سنى من أصل أكثر من ١٠٠ مليون مواطن.
إن علاقات مصر بإثيوبيا شهدت تقاربا عظيما فى عصر عبدالناصر، والذى أيد الاتحاد الفيدرالى بين إثيوبيا وإريتريا، وأن الرئيس السادات عادى إثيوبيا عندما أيد موقف السودان فى دعمها لانفصال إريتريا عن إثيوبيا، عندما أيدت الأخيرة ثورة الجنوب السوداني، وأن الرئيس مبارك أهمل العلاقات المصرية الإثيوبية تماما بعد تعرضه لمحاولة اغتيال فى أديس أبابا عام 1995، وأن سد النهضة ظل حلما يراود إثيوبيا وانتظرت طويلا لتحقيقه عندما ضعفت الدولة المصرية بعد أحداث يناير ٢٠١١، ولكن ها هى مصر تعود بقوة لتأخذ مكانها التاريخى فى أفريقيا.