لست من هواة الضجيج ولا المهاترات وأعمل فى صمت سلحفاة ودأب نملة وأسهر طويلا كبومة فوق شجرة تتأمل فئرانا تعبث فى ليل الحكايات فتسرق بيض العصافير من أعشاشها، أعرف ذلك من صراخها الذى يتبعه صأصأتها وفرحها الذى تقتله خطوات قط على الورق الجاف تحت الشجرة. لست من هواة الفلسفة لكنى تعلمت ما يقوله الليل للنجوم وما تقوله النجوم إلى الظلمة وما يرشه القمر على الدنيا من فضة تسقط فوق قلوب العشاق فتحولها إلى ماسات مشعة تعكس زواياها المتعددة وجه من نعشق. لست من هواة المواراة التى يلبسها الخائفون كيلا يراهم أحد فيستمروا فى طريقهم الرمادي. أكره الرمادى المستمر الخائن لا الرمادى الحكيم المتأنى الذى لا يستمر سوى لفترة وجيزة للحكم على الأمور ثم يأخذ طريقه للأبيض أو للأسود بشجاعة. ولست من هواة الحروب لأن نيرانها تحرق القلب وتكنس خضرته وتحرم أطفالا من وجوه آبائهم وأمهاتهم المبتسمة وتحرمنا من غفوة مريحة بعد عملنا الشاق، الحرب نار سموم لا تبقى شيئا، وجميع أطرافها خاسرون ولذا أغلق الباب بينى وبينها بعين يقظة تعى ما ترى وتزن ما تقول ولا تنشغل بأحد، لأن لديها ما يشغلها. لست من هواة القوالب التى يسعى البعض إلى التشكل بها حتى يشبه السائد الأكثر ضجيجا وبريقا لأن إيمانى بما أصنعه هو ما سيبقى حتى وإن اختلفت أو انتظرت عاما لأنتقى طريقا أسلكه، طريقا متفردا يشبه روحى أشقه بنفسى لأسير فيه ولا أمانع أن يسير فيه أحد بجوارى أو من خلفى؛ لأننى مدفوعة بثقة تتنامى مع خطوى فما شأنى بخطو الآخرين؟ هكذا تعلمت فى مدرسة جدى وجد جدى وجدتى وأم جدتى، الأمر تربية وليس خبرة مباشرة طوال الوقت، إذ تنتقل الجينات وينتقل معها تأثيرها الذى أثبته العلم، وما درسناه فى دروس الأحياء من أسرار الـDNA وما رصدته المخيلة الشعبية حين قالت إن «الأصل يمد لسابع جد» ولذا أقول إننى بعض جينات وكل تربية نصفها من البيت ونصفها مما أحببته واخترته وتعبت فى انتقائه. كان على أن أعيش الحياة بالطريقة التى يعيشها الناس، ففاجأتنى الكتابة التى أحببتها ورحبت بها فى حياتى فأربكتها وأربكتنى، اكتشفت أنها عاشقة تغار على حروفها من دخلاء يقاسمونها الوقت مهما كانت درجة تأثيرهم فى حياتك سواء أكانوا أشخاصا أم أشياء. الكتابة تريدك كلك لا شىء معك، حاولت خداعها أكثر من مرة وفشلت فقررت أن أبتعد وأهرب منها فى محاولة لاستعادة التوازن. قررت فطام روحي، وانتقلت إلى الحياة وناسها الذين يعيشون دونما تقعر أو أبراج عاجية يطلون منها على العالم ليشاهدوا الناس من بعيد. فلاحقتنى وجرت ورائى ولحقت بى بشروطى التى لا تتعارض مع أولوياتى التى اخترتها، فصرنا صديقتين أجرى وأجرى وأجرى فى الحياة وحينما أتعب نجلس معا لأسر إليها بما رأيته وتحدثنى هى بما عرفته من الآخرين فنكتب معا بحبرنا الخاص ما نريد ونصنع شيئا جديدا فى عالمنا. هكذا أمشى ويلحق بى الحبر يتأبطنى لنمشى معا، هكذا صارت الكتابة متعة مكتفية بها وراضية بنزق الشعر الذى نكتبه كما لو كنتُ شاعرة فقط، راضية بتعقل الناقد الذى يبحث عن التواشجات التى تضىء النصوص وتصنع آفاقا جديدة كما لو كنت ناقدة فقط، راضية ببراءة الطفولة التى تستهوينى كثيرا حينما نتعب أنا وهى من ضجيج العالم، فأكتب كما لو كنت طفلة لا كاتبة أطفال. كتابتى هى أنا تعبنا معا وانتقينا مساحة لا تتعدى على مساحة الآخرين وتتنفس هواءها الخاص بها تحت سماء خاصة بها كما لو كانت عالما فى بلورة سحرية محاطة بغشاء شفاف يظن من لا يعرف أنه غير موجود وهو ما يجعلنى يقظة لحمايتها، فهى صنيعتى التى تعبت عليها وكل محاولة للنيل منى ومنها - ها - لا ولن أسمح به إلا فى ساحة النقد.أصدرت ما يقرب من عشرين كتابا حتى الآن وهو عدد ليس بالهين. عشرون كتابا عدد كاف لتدافع عن أنفسها فى وجه أحقاد سوداء صادفتنى فى معرض الكتاب هذا العام حينما اعترضت على توزيع جداول نشاط ما ميز بعض القائمين عليه أنفسهم عن الآخرين. قال واحد منهم إن اعتراضى ليس من قبيل الحق والعدل وإنما سببه شعورى بالاضطهاد.. يا إلهي، لم أكن أعلم! ولا فرويد أوكارل يونج هو الآخر كان يعلم بالمعنى المستحدث للاضطهاد الذى مغزاه أن تصدر كتابا أو اثنين فى كل عام وتكتب مقالا أسبوعيا بجريدة تحبها وتفخر بانتمائك لها وبابا فى مجلة أطفال يتم تداوله مع آخرين ويكون لديك مشروع كامل للفرح لأطفال السرطان يعمل بدعم عائلى منذ ثلاث سنوات فى أكثر من مستشفى هو الاضطهاد بعينه. إننى أحمد الله الذى منَّ علىَّ بالموضوعية ووهبنى نعمة الرضا وحكمة أؤمن بها منذ قرأتها ولا أعلم صاحبها تقول: إن العالم ليس مسابقة لا بد أن يخسر فيها طرف. فساحة النجاح كبيرة وتكسير مجاديف الآخرين لا يزيد سرعة قاربك.
آراء حرة
يا إلهي! لم أكن أعلم
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق