شواطئ
يتابع ثلاثة من أشهر مؤرخى فرنسا، هنرى لورنس وجون تولان وجيل فينشتاين فى كتاب ضخم بعنوان أوروبا والعالم الإسلامى.. تاريخ بلا أساطير والذى يعد نقلة إلى العربية بشير السباعى والصادر مؤخرًا عن المركز القومى للترجمة بقولهم: ومما له دلالته أنهم لم يعودوا يتحدثون، خلافًا لما كان فى مستهل القرن، عن السكك الحديدية. والحال أن الجيوش الجديدة سوف يتم تأطيرها، مؤقتًا على الأقل، بضباط بريطانيين سوف يقومون بتنظيمها. وسوف يجرى اختزال الانتشار العسكرى المحلى اختزالًا ملحوظًا لصالح السلاح الجوى القادر على ضرب المناطق المتمردة فى أى مكان. والإمبراطورية، عن طريق المعاهدات، بدعة جذرية. فهى تتخلى عن المفهوم التقليدى الخاص بالأراضى لصالح المفهوم الخاص بالشبكات الهادفة إلى الحفاظ على الجزء «النافع» من الفضاءات الجديدة. وهى تنطوى على تغير فى العقليات من جانب المديرين الاستعماريين، الذين يجب عليهم أن يقبلوا فكرة نقل سريع إلى هذا الحد أو ذاك للاختصاصات لصالح النخب المحلية. إلا أنه إذا كان لا مفر من أفول السلطة المباشرة، فإن النزعة التدخلية سوف تظل أحد المعطيات الثابتة.
والحال أن المندوب السامى، ثم السفير البريطانى، سوف يكون فاعلًا مستديمًا فى المشهد السياسى مسئولًا عن السهر على إبقاء أطقم مناسبة للمصالح البريطانية فى السلطة. والمختبر هو الانتداب البريطانى على العراق مع إقامة ملكية فى عام 1921 عُهدُ بها إلى فيصل الهامشى. ويتم خلق شرق الأردن فى العام نفسه عن طريق فصله عن فلسطين، ويصبح إمارة على رأسها عبدالله، الأخ الأكبر لفيصل. وتحصل مصر فى عام 1922 على استقلال فى ظل تحفظات مصيرها أن تسوى بموجب معاهدة. وتظل البلدان العربية المطلة على ساحل الخليج محميات مع تدخل بريطانى ضعيف فى الشئون الداخلية. أما المملكة السعودية الآخذة بالتشكل فيتم إدراجها فى الترتيبات البريطانية، ويبدو ابن سعود شريكًا مصغيًا للقوة العظمى السائدة.
إذا كانت الحرب العظمى قد أشعرت الأوروبيين بأن حضارتهم قد تكون قاتلة، فإن جاذبية ثقافتهم تظل قوية التأثير على العالم الإسلامي والتحول الرئيسي فى تلك الفترة هو انتهاء النموذج الأوروبى الوحيد. وكانت هيبة المنتصرين قد عززت لبعض الوقت صورة المؤسسات الليبرالية. وتظل هذه المؤسسات تذكرة الدخول إلى عصبة الأمم بالنسبة للانتداب والعلامة الأبرز للحداثة. لكن أزمة الديمقراطيات الليبرالية محسوسة بالفعل فى عشرينيات القرن العشرين. وقد عم الاتحاد السوفييتي شعار النضال المعادي للإمبريالية، والذى تتبناه الحركات القومية المختلفة فى البلدان الإسلامية. ويبقى مع ذلك أن موسكو قليلة الجاذبية فى تلك الفترة. فسفيتة ما أصبح «الجمهوريات المسلمة» فى الاتحاد السوفييتى إنما تجرى بعنف زائد عن الحد وقد أدت إلى نزوح جديد، حيث تبعثر المهاجرون فى مجمل الشرق الأوسط (مع استقرار تيار نزوح صغير أيضًا فى أوروبا). وتحتفظ تركيا الكمالية وإيران رضا شاه بعلاقات حذرة مع جارهما القوى الذى ظل أيضًا العدو التاريخى. ويجرى اعتبار الشيوعيين الترك أو الإيرانيين الأوائل خونة.
وفى المشرق العربى يأتى الشيوعيون الأوائل من صفوف الأقليات (اليهود والأرمن بالدرجة الأولى)، ولا ينجحون فى الانغراس فى الوسط المسلم. أما النقابات العمالية الأولى فهى ملحقات للحركات القومية. وإذا كانت لدى بعض المثقفين المسلمين نزعات اشتراكية، فإنهم أكثر انجذابًا إلى الاشتراكية الديمقراطية منها إلى البولشفية.
وعن طريق المهاجرين العمال المغاربة فى المتروبول، يمكن للشيوعيين الوصول إلى السكان الأفارقة الشماليين. لكن العلاقات بين الحزب الشيوعى الفرنسى ومنظمة نجمة شمالى أفريقيا سرعان ما تتداعى. ففى حين أن مصالى الحاج يجذر خطابه الاستقلالى معطيًا إياه بُعدًا إسلاميًا أكثر، يؤدى الانتقال إلى معاداة الفاشية إلى اعتدال للنضال المعادى للإمبريالية، وهو اعتدال ضرورى لتكوين جبهات شعبية. وإذا كان بعض المثقفين الأوروبيين يؤيدون النضال المعادى للاستعمار، فإن التيار الغالب فى صفوف القوى المسماة بالتقدمية إنما يمضى إلى مجرد تصحيح «مساوئ» الاستعمار وليس إلى القضاء على هذا الأخير. والحال أن المستوطنين فى الشمال الأفريقى هم وحدهم الذين قاموا بمماهاة النزعة القومية الاستقلالية بالحركة الشيوعية الدولية.
وتظل القومية الأوروبية العنصر الأكثر جاذبية. وإذا كانت القومية الإيطالية لزمن قد مثلت، تاريخيًا، أحد مصادر الإلهام بالنسبة للنزعات القومية فى العالم العربى، فإن هناك انعدامًا ملحوظًا للثقة فى إيطاليا الفاشية، وذلك بسبب مسلكها الوحشى فى ليبيا وأطماعها المعلنة فى السيطرة على مجمل البحر المتوسط. وتبدو ألمانيا النازية أكثر كفاءة وأقل خطورة. وهى ترث تراث حب ألمانيا الذى خلفته لهم. وفى ثلاثينيات القرن العشرين، يبدو النموذج الفاشى بالفعل أفضل «أداء» من الديمقراطيات الليبرالية المنهكة والمتراجعة فى مجمل أوروبا. وفى كل مكان، تتبنى حركات الشبيبة القومية لباس الشبيبة المسيسة الأوروبية (القميص «الأزرق» أو «الأخضر»)، لكن الاستعارات تظل سطحية. وهناك من يرى بالأخص «صديقًا» فى «عدو عدوه». والحال أن واقع ترك النازية لإيطاليا الفاشية احتكار السياسة المتوسطية حتى نشوب الحرب إنما يغذى انعدام الثقة.
وللحديث بقية