لعل أهم ما يؤشر لأننا أصبحنا نحيا عصرًا جديدًا غير مسبوق تلك البطولات الرائعة لمسلمين يحمون أقباطًا ويفدونهم بدمائهم الذكية وأرواحهم التى ترتقى فى السماء مصحوبة بدعوات المصريين جميعًا مسلمين وأقباطًا، وأبرز هذه النماذج من الشهداء فى عصر التسامح الدينى الراهن الرائد الشهيد مصطفى عبيد، الذى استشهد خلال تفكيك عبوة ناسفة بعزبة الهجانة بمدينة نصر قبيل ساعات من الاحتفال بأعياد الميلاد المجيدة فى يناير الماضى، كان يعلم دائمًا أن ساعته قريبة وأن مكافأته الحقيقية هى الشهادة فى سبيل ما كان يؤمن به.. وهو حماية الوطن من الجبناء.. وواجبنا جميعًا أن نروى قصته كى تُوثق وتعرفُها الأجيال القادمة وتفخر وتحتذى بها، وتتعلم أنه ليس هناك أغلى من الوطن. ليس هناك أغلى من المصريين بغض النظر عن دينهم.
كان الرائد الشهيد مصطفى عبيد نموذجًا حيًا للبطولة والفداء.. نموذج مصرى صرف للشهامة والجدعنة، كان - كما يقولون - ابن موت، وإن كان الموت لا يجرؤ أن يجاهر بينه وبين نفسه أنه اختطف حياة هذا البطل، ولَمَ لا؟ وقد آلَ الله على نفسه فى كتابه العزيز، بأن أمثال مصطفى عبيد لا يموتون بل يظلون أحياءً عند ربهم «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»، ويظلون أحياءً فى ضمير أسرهم وأصدقائهم ومعارفهم، بل يظلون أحياءً فى ضمير أمتهم.
لقد فدى الشهيد مصطفى عبيد أبناء وطنه بروحه ودمه، ولم يبخل على وطنه بأعز ما يملك الإنسان، وضرب مثالًا للوطنية والتفانى فى حب مصر لحمايتها من أعداء الحياة. وهذا ليس مستغربًا فالرائد الشهيد قد تربى فى بيتٍ زاخر بحب الوطن؛ فوالده هو اللواء أركان حرب عبيد الأزهرى، والذى كان قلقًا من عمل نجله بالمفرقعات بحكم عمله كضابط بالقوات المسلحة، إلا أن الابن البطل كان يحب عمله، وغير مستعد للتضحية به، وكان البطل يطمئن والده بأن جهاز الشرطة لا يجبر أحدًا على الالتحاق بالمفرقعات، وعندما طلب منه والده النقل لأى مكان آخر إلا أنه رفض، وكان متميزًا فى وظيفته، وكان دائمًا ما يقول إن عمله رسالة فى حب الوطن، وليس مجرد وظيفة يؤديها، وهذه ذروة الغيمان وسنامه، عندما يصل القيام بالعمل إلى مرتبة الإيمان بقيمة هذا العمل ورسالته.
ومن بين نماذج التسامح الدينى وسماحة الإسلام أيضًا الشيخ سعد عسكر إمام مسجد مدينة نصر الذى أبلغ أحد حراس الكنيسة بوجود قنبلة أعلى سطح المسجد، عندما أدرك أن هناك ما يريب فوق سطح المسجد، فقاده يقينه وخوفه على إخوانه الأقباط إلى سرعة الإبلاغ عن ذلك، ليعود الهلال ليعانق الصليب فى الذكرى المئوية لثورة 1919 التى شهدت هذا التلاحم الفريد بين عنصريْ الأمة المصرية.
وذكر الشيخ سعد عسكر أن خبير المفرقعات الشهيد مصطفى عبيد كان يصرخ فى المواطنين ليبعدهم عن القنبلة قبل تفكيكها، وأن الشهيد البطل أبعد جميع زملائه عن مكان العبوة الناسفة لأن الأجواء كانت متوترة للغاية، قائلًا: «الشهيد البطل تصدى للعبوة الناسفة بمفرده وأبعد زملاءه عن العبوة».
ولم يكد شهر أعيد الميلاد المجيدة وافتتاح أكبر مسجد وكاتدرائية يلملم أوراقه حتى شهدنا شهيدًا آخر يقدم روحه فداء للوطن دفاعًا عن سيدة قبطية من أهالى منطقة سكنه تعرضت للتحرش واستغاثت لإنقاذها، وترجع تفاصيل الواقعة عندما تم إبلاغ قسم شرطة البساتين، الثلاثاء 22 يناير، بحدوث مشاجرة وسقوط قتيل بدائرة القسم. وبالانتقال والفحص تبين أنه حال سير ربة منزل (30 سنة)، قام (ع. إ. م 40 سنة- نقاش)، بالتحرش بها، فاستغاثت بالمارة فتدخل (مكوجي- 36 سنة)، دفاعًا عنها، من منطلق طبيعة الشعب المصرى الرافضة لكل أشكال التحرش والظلم دفاعًا عن المرأة بغض النظر عن ديانتها، وهو الأمر الذى أثار حفيظة المتهم فقام بالتعدى عليه بسكين محدثًا إصابته بطعنة نافذة بالصدر من الجهة اليسرى، وجرح قطعى باليد اليمنى وتوفى متأثرًا بإصابته، وعلى إثر ذلك تجمع الأهالى، وقاموا بالإمساك بالمتهم والتعدى عليه بالضرب محدثين إصابته بجرح غائر بمقدمة الرأس وكدمات بالجسم، وتم ضبط المتهم والسلاح المستخدم فى الواقعة، وبمواجهته اعترف بارتكاب الواقعة، وتأيدت الواقعة بشهادة (مبيض محارة- 44 سنة)، وجارٍ العرض على النيابة.
إن عناق المسلمين والأقباط والمسجد والكاتدرائية والهلال والصليب، انعكس على عناق المناسبات والأعياد الإسلامية والمسيحية فى آنٍ واحد؛ فبينما احتفل الأقباط بعيد الميلاد المجيد، استقبل المسلمون شهرًا عربيًا جديدًا، حيث توافق يوم الإثنين 7 يناير مع غرة شهر جمادى الأول، وهو الشهر العربى الخامس من السنة العربية، والذى يسبق شهر رمضان المبارك بأربعة أشهر.
وثمة مناسبات عديدة توافقت فيها مناسبات وأعياد إسلامية، مع أخرى مسيحية، ففى 11 سبتمبر الماضى، بينما كان المسلمون يستقبلون السنة الهجرية الجديدة، كانت الكنيسة الأرثوذكسية تحتفل بعيد «النيروز»، وهو احتفال رأس السنة القبطية، وذلك بختام عام 1734 قبطى وبدء عام 1735. وعيد «النيروز» أو «الألنيروز» أو «النوروز» القبطى هو أول أيام السنة المصرية من شهر توت ومعناه فى اللغة القبطية «الأنهار»، وهو موعد اكتمال موسم فيضان النيل سر الحياة عند المصريين وموسم الخير والبركة وخصوبة الأرض، وهو أيضًا أول أيام شهر توت عيد رأس السنة المصرية عند المصريين القدماء وأول أيام السنة الزراعية الجديدة، إذ كان الفلاح المصرى القديم يتبع التقويم القبطى المعروف الآن فى زراعته.
وفى 21 أغسطس الماضى، احتفل المسلمون بعيد الأضحى المبارك فى العاشر من ذى الحجة، عقب الانتهاء من وقفة عرفات، احتفل الأقباط بنهاية صوم السيدة العذراء الذى يستمر لمدة أسبوعين.. احتفالات الأقباط بـ«صوم العذراء» شهدتها كنيسة العذراء بالزيتون والكنيسة الأثرية فى مسطرد، كما أقيمت أضخم الاحتفالات بدير السيدة العذراء فى درنكة بأسيوط. وفى ديسمبر عام 2015، وللمرة الأولى منذ 457 عامًا، توافقت أعياد الكريسماس أو ميلاد المسيح عن الكاثوليك، مع المولد النبوى الشريف، فى 12 من شهر ربيع الأول، وهى المصادفة التى حدثت عام 1558 ميلادية، الموافق لسنة 966 هجرية.
وحرصًا ممن قدموا طلبًا بالتعديلات الدستورية إلى مجلس النواب، ومعظمهم مسلمون، أنهم أبقوا على «كوتة» الإخوة الأقباط فى مجلس النواب إيمانًا بوجودهم الفاعل فى مجلس النواب فى هذه المرحلة الفارقة التى يمر بها الوطن، وإيمانًا بكل ما قدمه أقباط مصر من أرواحهم ودمائهم وأموالهم ودور عبادتهم فِداءً للوطن، وهو الموقف الوطنى الذى لم يتخلَ الأقباط عنه يومًا.
حمى الله مصر.. وجعل أهلها فى رباط إلى يوم يُبعثون.. وأدام الله علينا نعمة التسامح الذى بدأنا بالكاد نحيا أرقى عصوره.