تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
تحدثنا عن النخبة المصرية سواء كانت نخبة طبقية فى إطار الملكية الزراعية بعد إلغاء نظام الالتزام، وبعد عملية تملُك الأراضى عام 1892 بعد دفع ضرائب أربع سنوات مقدمًا، أو نخبة سياسية تأثرًا بالمناخ السياسى الذى تولد بعد هبة عرابى 1881 التى أنجبت شخصيات وطنية مثال «محمد عبده، مصطفى كامل، محمد فريد، سعد زغلول، لطفى السيد» وآخرين، أو تلك النخبة القبطية التى اعتمدت على تملُك الأراضى، وفى نفس الوقت على كونها نخبية طائفية تنتمى للكنيسة القبطية خاصة بعد تشكيل المجلس الملى الذى أعطى الفرصة شبه الرسمية فى أن تكون النخبة القبطية هى همزة الوصل بين الكنيسة والحكومة، ذلك لأنها النخب التى كانت بالفعل محرك الأحداث منذ هبة عرابى 1881 وحتى هبة 1919، وما بعدها بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إننا، وهذا هو الأهم، لا نريد ولا نملك ولا نقبل أن نوزع الوطنية على أحد أو نصادرها من أحد، فالمصريون وطنيون، حتى من تعاون مع الاحتلال البريطاني، وسبق أن تحدثنا عنهم، لم يكونوا خونة بالمفهوم السياسي، لكنهم تعاملوا بصورة أو بأخرى بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع المحتل نتيجة للواقع والمعطيات السياسية والاقتصادية فى ذلك الوقت، تلك المعطيات التى كانت امتدادًا لحقب زمنية وتاريخية جثم فيها الاستعمار والنُظم والحكام غير المصريين بكل الأشكال وتعدد الأصناف. وإن كان الأمر لا يخلو من نزعة براجماتية نفعية كانت تتوافق مع تلك الظروف وذلك الزمن، ناهيك عن تلك الجينات الفرعونية القابعة فى الضمير الجمعى المصرى التى تصنع من الحاكم، أى حاكم، إلهًا، حتى إن الأمثال الشعبية قد أرخت لهذه الممارسات مثال: «المية متجريش فى العالي، العين متعلاش عن الحاجب، اللى يتجوز أمى أقوله يا عمى»، ومع هذه الحالة الاجتماعية والزمنية ظهرت بالتوازى الأحزاب السياسية فى 1907، فكان من الطبيعى أن تتأثر وتتشكل الأحزاب والعملية السياسية الشعبية بهذا المناخ، خاصةً فى إطار دولة ظلت تابعة للسلطة العثمانية حتى 1924، هنا كانت هذه الذاتية وما يسمى بالزعامات الفردية وفكرة الشللية المتأثرة بالفكر القبلى والممارسات الطائفية؛ حيث كان النظام برمته يعتمد على نظام الطوائف. هنا تغيب النظرة الجمعية والتواجد الجماهيرى الحقيقى بمشاكله وقضاياه وطموحاته، أى تغيب الرؤية السياسية الواضحة وتنعدم الروئ الحزبية المتعددة؛ فكان البديل الطبيعى فكرة التحرر من الاستعمار البريطانى وعلى أرضية المراوغة والمراضاة مع هذا الاستعمار حتى يرضى ويقبل، أى الحصول على أى مكاسب يقبلها الاستعمار بعيدًا عن أى صورة نضالية حقيقية، ذلك حتى نضجت غريزة النضال المصرى بعد ذلك، والتى كانت بذورها الحقيقية فى هبة الشعب المصرى 1919.
ولذلك كيف كانت علاقات تلك النخبة، وكيف كان قبولهم لبعضهم فى هذه المسيرة التى كان عنوانها الاستقلال؟ فالسيطرة الذاتية والزعامات الفردية وغياب الرؤية السياسية وعدم نضج الحياة الحزبية كان الصراع الشخصى والرؤية الذاتية هى المسيطرة على هذه العلاقات، وهنا سنستطلع بعض المواقف السريعة والدالة بين هذه الزعامات، فكيف كانت العلاقة بين عرابى ومصطفى كامل؟ يقول مصطفى كامل ردًا على سؤال فرانسوا دى مين، مدير مجلة العالم الإسلامي، حينما طلب من كامل رأيه فى الجيش المصرى «كان جيش مصر جيش عظيم نظمه المرحوم محمد على باشا رأس العائلة الخديوية حتى كاد أن يكون أقوى جيش فى العالم الشرقى بعد الجيش العثمانى، وقد غزا به محمد على بلادًا كثيرة لا أود ذكرها؛ لأن فى ذكرى بعضها ما يحرك أشجانى ويؤلم فؤادى بصفتى مسلمًا مخلصًا يرى القوة فى الدولة العلية والمجد فى سلامتها والالتفاف حول رؤيتها»، والأهم أن مصطفى كامل لخص رأيه الذى كان صدى لعلاقته بالخديو «إن الخديو توفيق رجل زاهد، وإن أحمد عرابى هو سبب الاحتلال»، وذلك لأن العلاقة بين الزعيمين أحمد عرابى ومصطفى كامل، كانت قد شهدت تباينات واختلافات تسيطر عليها النزعة الذاتية أكثر من الرؤية السياسية وتلخصت فى فكرة الاصطفاف مع الخديو «مصطفى كامل»، ومواجهة هذا الخديو «أحمد عرابي».
هنا.. ما رأى سعد زغلول فى مصطفى كامل؟ لم تكن العلاقة على ما يرام؛ حيث إن الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل كان يكيل السباب والنقد لسعد زغلول وعدم التقدير لعمله كوزير للمعارف، فعند وفاة مصطفى كامل كان سعد زغلول فى زيارة للفيوم مع مجموعة أصدقائه فسمعوا بحجم الجنازة والحفاوة التى كان ينالها مصطفى كامل، والتى لم تكن مريحة بالنسبة لسعد زغلول.
تلك العلاقة لازمت سعد تجاه مصطفى كامل، وتجاه الحزب الوطنى، حتى إن سعد زغلول لم يكن يرتاح أيضًا لمحمد فريد؛ حيث إن محمد فريد كان يصف فتحى زغلول شقيق سعد بالاستهتار والارتشاء وسوء السلوك والانهماك فى القمار، وهذا كان من أسباب سوء العلاقة بين سعد زغلول ومحمد فريد؛ حيث جاء فى مذكرات فريد «حتى إن سعد زغلول فى لحظة رفض رأى على باشا شعراوى بإعجابه بمحمد فريد»، بل رفض سعد ضم محمد فريد إلى الوفد، فظهرت وحدة الأمة فى أجلى معانيها- حسب قول عبدالرحمن فهمى- قائلًا: «إن انضمام فريد إلى الوفد خطر كبير على القضية الوطنية التى تحتاج على الدوام إلى عطف الحلفاء الذين اشتهر فريد لديهم بممالأة أعدائهم، ولذلك فضم فريد يشوه جمال نهضتنا». هذه بعض النماذج الدالة على تلك العلاقات بين الزعماء فى ذلك الوقت والتى كانت تسيطر عليها النظرة النرجسية.
هذه هى سلوكيات هذه الزعامات، حتى إن سعد زغلول لم يطالب بالاستقلال ولا فكر فى الدستور حين كان وكيلًا للجمعية التشريعية، حتى كانت هبة الشعب فى 8 مارس 1919. ما حال النخبة القبطية وصولًا بانضمامها إلى الوفد، سيتبع فى المقال المقبل بإذن الله.