الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مكانة العلم العربي.. تاريخيًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
رأى كثير من الكتَّاب الغربيين فى «العلم العربي» مجرد امتداد للعلم اليوناني، وأكدوا أن كل ما قام به المسلمون، فى مجال العلم، كان يدور فى ذلك الإطار الذى حدده اليونانيون قبل ذلك بفترة لا تقل عن ألف عام. وأراد غير هؤلاء أن يكونوا أكثر إنصافًا، فذهبوا إلى أن التفكير العلمى العربى وإن ظل فى إطاره العام يونانيًا، قد أعاد النظر فى التراث العلمى اليونانى من جديد، وبحث فيه بروح تقدمية، فيها قدر من الاستقلال. ولكن المهم فى كلتا الحالتين هو أن العلماء العرب - وفقًا لرأى هؤلاء الكتـَّاب - لم يخرجوا عن فلك التفكير العلمى اليوناني. 
وقد يبدو ظاهريًا أن لهؤلاء الكتـَّاب بعض العذر فى التقريب بين العلم العربى وتراث اليونانيين: إذ إن الأسماء اليونانية، مثل أرسطو وأبقراط وجالينوس، كانت تتردد كثيرًا فى المؤلفات العلمية العربية. كما أن الإطار الفكرى لهذه المؤلفات كان يحتفظ بقدر غير قليل من مفهوم العلم عند اليونانيين: إذ نجد عند فلاسفة الإسلام نظرة متدرجة إلى العلوم، تعلى من قدر العلم النظرى البحت، وتقلل من شأن العلم التطبيقي، وتجعل مكانة أى علم مرتبطة بمكانة الموضوع الذى يبحث فيه. ولكن كتابات الفلاسفة كانت تسير فى طريق مختلف عن مجال ممارساتهم العلمية: إذ إن الاهتمام بالعلم التجريبي، واستخدام البحث العلمى من أجل فهم قوانين الطبيعة المحيطة بنا، كان هو الهدف الرئيسى من أعمال علماء مشهورين مثل: جابر بن حيان فى «الكيمياء»، والحسن بن الهيثم فى «البصريات» (علم الضوء)، والبيروني فى «الفلك والرياضيات»، والرازي وابن سينا وابن النفيس فى «الطب». ويصعب على كل منصف قبول الحكم القائل: «إن الإطار الذى كان يدور فيه هؤلاء العلماء الكبار كان إطارًا يونانيًا صرفًا، وأنهم لم يضيفوا إلى الحضارة الإنسانية إضافات أصيلة تنبع من طبيعة البيئة الثقافية التى عاشوا فيها».
نحن نعلم أن الفكر الاستشراقى فى أغلب مظاهره، ما فتئ يركز لقناعة عنده، على أن العلماء العرب لم يسهموا إلا فى الحفاظ على التراث اليونانى والهيلينستى من التلف وبقيامهم، تبعًا لذلك، بدور الجسر الثقافى والحضارى بين القديم والحديث. وأنهم لو لم يقوموا بنقل المؤلفات اليونانية إلى العربية لوصل العلم اليونانى إلى أوروبا عبر طرق أخرى، كما حدث فى بدايات النهضة الأوروبية.
واللافت للنظر، أن مثل هذا الموقف السلبى من العلم العربي، قد أدى إلى تقزيم الدور الحضارى للعرب، ووصل الأمر إلى درجة أن كثيرًا من مؤرخى العلم قد توهموا أن العطاء العلمى العربى ليس سوى ترديد صدى للحضارات التى سبقت الحضارة العربية الإسلامية. وعلى هذا الأساس راجت الخرافة القائلة إن حضارة العرب، لا تزيد على كونها جسرًا ربط بين الحضارة الإغريقية القديمة والحضارة الغربية الحديثة، وهذا القول يبرز ما للعرب من قدرة على استيعاب علوم الأقدمين. هذا من ناحية، ويكشف من ناحية أخرى عجز العرب على الإبداع والخلق. وترتب على ذلك القول باستحالة أن تكون مؤلفاتهم قد احتوت على اكتشافات ذات قيمة خاصة، أو ابتكارات ثورية. 
ولكن لم يلبث مثل هذا الرأى أن أفرز تحركًا مضادًا لدى بعض المفكرين العرب، تمثل فى محاولات كشف ضحالة وتهافت هذا التفكير، إذ طالعتنا منذ بداية القرن الماضي، الكثير من الدراسات التى أخذت على عاتقها تصحيح الأطروحات السابقة. وذلك بإبراز ما لهذا النوع من التنظير التأريخى من تناقضات داخلية، أدت فى الكثير من الأحيان إلى تعسف ظاهر على التاريخ ذاته.
ومما زاد هذه المسالة تعقيدًا، ما أحاط بها من عوامل الكرامة القومية والاعتبارات الدينية. فمن الغربيين من لا يعترف للعرب بفضل ما على الحضارة كأنهم عالة على الفكر البشري. ولعل ذلك الموقف الغربى قد جاء كأحد مخلفات القرون الوسطى حين كان العرب خطرًا على أوروبا، وكان الإسلام خطرًا على المسيحية، وحين كان بعض المسيحيين يعتقدون أن الطعن فى الإسلام ضرب من ضروب التقوى. وعلى الجانب الآخر بالغ بعض العرب والمسلمين فى تقدير فضل العرب على العلوم لما فى ذلك من إرضاء للعزة القومية.
ومهما يكن من شيء، فإن القومية العربية اليوم أهدأ أعصابًا وأثبت أسسًا من أن تتأثر بمثل هذه البحوث، أو هكذا يجب أن تكون. والغربيون أبعد ما يكونون اليوم عن أن يخشوا الاعتراف بما للإسلام من فضل، فلن يضير ذلك المسيحية فى قليل أو كثير. ومن السخف أن تتخذ مثل هذه المسائل مجالًا للمفاضلة بين الأمم أو بين المفكرين فى الأمة الواحدة، فالنتاج الفكرى يأتى كمحصلة لعوامل كثيرة، أهمها درجة نمو العقل الإنسانى فى العصر الذى يعيش فيه العلماء، وإنما يتفاضل البشر بما فيهم من صفات عقلية وشخصية خاصة بهم بصرف النظر عن قيمة ما ينتجون. وتقاس عظمة المفكرين والمبدعين بمقياس عصرهم، وليس بمقياس عصرنا. ولعله لم يبق من طب «أبقراط» أو «الرازي» شىء فى الطب الحديث، وهما مع ذلك يعدان فى الطبقة الأولى من الأطباء.
ليس الغرض من هذا المقال إذن المفاضلة بين أمة وأخرى، وإنما غايتنا منه أن نضع الحضارة العربية فى موضعها من التاريخ العام، فهى لم تكن ظاهرة شاذة قائمة وحدها، بل هى جزء من تطور الفكر البشري، وأثر العرب فى هذا التطور هو مفخرتهم الكبرى.