الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

في القرية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قريتنا ـ كمعظم قرى الريف ـ قرية بسيطة فى مبانيها، بسيطة فى أسلوب معيشتها.. ولكنَّ طبيعتها خلَّابة ساحرة.. كلما ذهبت إليها يأسرنى جمالها، وأشعر كأنى أُولد من جديد.. فيها يهدأ عقلى ويسعد قلبى وتنعم حواسى.
فى القرية.. تجد الهدوء وراحة البال.. تجد الصفاء والنقاء.. تجد البساطة وترابط القلوب.. ومن عاش طفولته فى القرية.. يرتبط بها ويتعلق.. وعندما يعود إليها، تعود إلى ذاكرته أيام جميلة.. أيام لا يمكن أن تطالها يد النسيان.. أيام الطفولة والبراءة.. فلا يستطيع أن يقاوم حنينه إليها، فيتذكرها مبتسمًا.
فى القرية.. يوجد الحب والتعاون.. لا يبخل أحد على أحد بشيء يملكه.. كنت أسمع جارتنا تنادى أمى وتقول لها: «عايزين شوية جرجير»، وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.. لا يخجلون من طلب هذه الأشياء البسيطة من بعضهم، فلديهم عرف مقدس وهو أن «الجيران لبعضيها».. والجار لا يمكن أن يمنع عن جاره ما يملكه ويستطيع أن يعطيه له أو يعاونه به، فهم لا يمنعون الماعون، وإلا كان ذلك عيبًا كبيرًا، ويعاتب فيه عتابًا قاسيًا.
فى القرية.. حينما يمرض أحد من أهلها.. تجد جميع أهل القرية يذهبون لزيارته للاطمئنان عليه والتخفيف عنه.. كنت أجد عمى يأتى إلى أبى فى منزلنا ويخبره بأن فلانًا من أهل القرية مريض وأنَّ عليهما الذهاب إلى زيارته.. فيذهبان إلى زيارته، وهما فى طريقهما يخبران الجيران كى يصطحبوهم معهم.. وكأنهم جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
فى القرية.. إذا مات أحد من أهلها.. فإن الحزن يخيِّم على القرية كلها.. وتختفى مظاهر الفرح مراعاة لمشاعر أهل الميت.. ويذهب إلى بيت الميت الآلاف من أهل القرية والقرى المجاورة من أجل الصلاة عليه وتشييع جنازته ودفنه.. ثم فى مشهد يُصوِّر مدى التراحم والمحبة بينهم، يُجهِّز كل بيت من بيوت القرية «صينية العزا»، عليها أفضل أنواع الطعام؛ لإرسالها إلى المكان الذى يُقام فيه سرادق العزاء لإطعام الغرباء الذين يحضرون العزاء.
فى القرية.. الحزن يدوم طويلًا؛ حيث الترابط والتلاحم، الدفء والوفاء، حتى الطبيعة تشارك الناس أحزانهم وأفراحهم؛ فيصبح النسيان تذكرًا، إنهم ينسون أن ينسوا.. أما المدينة فأحزانها كثيرة، وكثرة الأحزان تُنسى، كلما تاه حزن قديم بين الزحام وُلد حزن جديد من بين الدخان.
فى القرية.. لا شيء سوى كفاح أهلها وصبرهم.. منهم تتعلَّم المعنى الحقيقى للعمل، وتفهم كيف يكون الإنتاج.. الناس هناك عددهم قليل، يعملون فى صمت.. ولا يشهد على عظم عملهم وكدهم سوى تلك المساحات الخضراء الواسعة الممتدة.. الفلاح هو الجندى المجهول.
فى القرية.. تُشرق الشمس على استحياء وتغرب على مَهَلٍ.. وهى فى شروقها وغروبها ترسم منظرًا غاية فى الإبداع والإتقان.. يمكنك أن تشاهد لوحة الشروق بكامل أناقتها.. تشاهد الشمس وهى تمسح عن الورد قطرات الندى، وتراها تلامس أوارق الشجر بلطف وحنان.. وفى الغروب تنسحب فى هدوء وتبدأ فى المغيب رويدًا رويدًا.. حتى يُسدل الليل ستره، ويلوح القمر فى الأفق.
فى القرية.. اعتدتُ الجلوس على سطح منزلنا ليلًا.. أنظر فأشاهد على منتهى بصرى شجر النخيل وقد انعكس عليه نور القمر.. أراه يعانق السماء شامخًا.. كما أنظر فى السماء فأجدها قد انقسمت قسمين.. الأول: صافٍ تلمع فيه النجوم كثوب زيَّنته حبات اللؤلؤ.. أما الثاني: فمتشح بسحب ملائكية بيضاء.
فى القرية.. اعتدتُ أن أتأمل، أُعانق الخيال، أنتمى للماضى وأتجرد منه، أحلم بالغد، أتذكر وأنسى، وبين الذكر والنسيان يعيش الإنسان.