"لن يستطيع أحد هزيمتك إلا إذا هزمت نفسك".. عبارة ترددت في عقل ذلك الذي وقف في غرفته ينظر إلى بضع صور زينت أحد جدرانها، لا يعلم لماذا ينتابه ذلك الشعور الجارف بالرحيل عن كل شيء، غير أن نظرة إلى تلك الصور تجعلك تدرك أن مسًا أصاب ذلك الرجل هذا اليوم، فتلك صورة له يحمل أثقالًا بيدين عاريتين، وأخري يلتحف بعلم بلاده ظافرًا بفوز عظيم، يمسك باحدى يديه ميدالية أولمبية، في حين أشار بالأخرى علامة نصره المبين.
على طرف شفتيه حمل ثغره تلك الابتسامة، والتي جمعت ما بين نشوه زمن لم يعد زمنه، وسخرية إنسان يتألم أثر الخذلان، فما فائدة أن يفخر بمجد لم يشعر به غيره، ما فائدة أن يبذل عرقٌ لمن لا يستحق جهده، كانت مجرد لحظة انتابتهم فيها نشوه انتصار نسبوه لأنفسهم كذبًا، ثم كان يومٌ احتشدوا لتكريم سرقوا أضوائه، فاعتلي هذا منصةً متحدثًا عن دعمه، وتبارى أخر في اظهار تلك الخدمات التي قدمها لبطل قومي، ثم التقطوا تلك الصورة التي تزين منزله، قبل أن يختتموا يومهم بوداع ونصيحة آلا يعود إلي ذلك أبدًا.
تنهيدةٌ حارةٌ أطلقها الرجل بصوت هادر، كادت من قوتها أن تشعل حجرته الصغيرة، حتي أنه شعر بدفئ شمس ساطعة في نهار شتاء بارد، فتصبب عرقًا غزيرًا أو هكذا توهم، فراح يمسح جبينه الجاف من عرق لم يسيل، قبل أن يتمتم قائلًا، لا تبتئس هكذا يا رجل فتلك أيام ليتها لا تعود، وهذه المدينة لا تجيد صناعة شيء عظيم، ظننت يومًا أنك وصلت إلي هدفًا حلمت به، ولكنك كما تعودت ظن من النوع الأثيم، ثم اعتدل نافضًا رأسه مما علق من غبار ذكريات أليمة، قبل أن يتجه إلي مكتبه الصغير، وصديقه الوحيد.
"ألف شركة وألف رجل أعمال، مفيش حد فيهم يقدر يرعاني لحد أولمبياد 2020 لتحقيق حلمي الكبير، فوضت أمري ليك يارب".. عبارات قليلة راح يكتبها الرجل علي حسابه الشخصي علي موقع التواصل الإجتماعي، لم يكن لديه من يبوح إليه بوجيعته، يدرك أن أحدًا لن ينصت إلية، لذلك فضل الحديث مع نفسه، أو كتابه ما يشعر به، عله يجد فرصة تعيد له حلمه من جديد، فرصة يحقق من خلالها انتصارٍ، يعلم جيدًا أن نشوتها ستطول الجميع، من ساندوه ومن اهملوه، فرصة تجعله لا يهرب من الحياة.
ذات صباح منذ عشرين سنة مضت، حينما كان هذا الرجل في العاشرة من عمره، لبي نداء صاحبه في الفصل للذهاب إلي الساحة الشعبية المجاورة لقريته، فهذا اليوم تُلعب بطولة الجمهورية في رفع الأثقال، وقف الطفل وسط حشد كبير يراقب بعين الإعجاب رجال اصطفوا تمهيدًا لبدء بطولة تحدي الأقوياء، ممشوقي القوام يتمتعون بعضلات بارزة، اكتسبت أجسادهم صلابة الفراعين الأولين، رأي فيهم حُلم راوده يوم ما، أن يقف هكذا على منصة الفائزين حاملًا لقب الأقوى، ليس في قريته أو حتى في بلده، بل في العالم أجمع.
لم يُخيب الظن هذا الفتى، فقد أضحى يومًا ما أراد، حقًا عاني الكثير من أجل تحقيقه، حقًا واجه العراقيل بصدر حاول أن يُظهر أنه رحب، ولكنه في النهاية حقق ما حلم به، أضحي رجلًا قويًا يعتلي منصة تلو الأخرى فائزًا، جاب الكرة الأرضية شرقًا وغربًا رافعًا راية بلده، مرت عشرون عامًا ولم يتغير شيء، نفس الحفل الذي ينتشي به الآخرون، ونفس الصورة التي اعتاد أن يزين بها جدار غرفته، واليوم وقد أضحى رجل قارب الثلاثون من عمره، أدرك أنه لن يكون قادرًا على مواصلة تحقيق حلمه، وأنه آن الآوان للفرار من تلك الحياة.
المشهد الثاني
لم يكن شروق شمس هذا اليوم كأي شروق، ليس لأنه يوم من أيام الربيع الجميلة، تناغمت فيه كل خلائق الطبيعة لرسم تلك اللوحة الساحرة، علي كورنيش نيل القاهرة، وقفت تلك الأشجار الزاهرة، تتراقص على أنغام ريح رطبة مغمسة بالندي، فتهللت على أفرعها الطيور الجواثم، تحوم فيما بينها فراشات بحث عن الرحيق، وتسلقت الطيور ثاقبات الخشب الكستناء، ناقرة بمناقيرها ثقوب اللحاء، وحلقت العصافير وطيور السنونو تزين تلك السماء، لقد استنشق من كان هنا ريح السعادة.
أعلي أحد الكباري النيلة العريقة، تلك التي تزينها الأسود الحديدية، تجمع حشد من الناس، رجال ونساء، أطفال وشيوخ، يتزاحمون لإلقاء نظرة علي حافة الجسر، رافعين أيديهم بهواتفهم المحمولة لالتقاط صورة تذكارية مع هذا الذي يتدلى، شاب صغير، لم يتخط الرابعة والعشرين، قرر الرحيل، وبكامل حلته الرسمية.
"مسقط رأسي من تلك التظاهرة، خبِّئْ مشاعركَ القديمةَ كلها، واكتبْ لمصرَ اليوم كلمات تليق بشعبها، لا صمتَ بعد اليومِ يفرِضُ خزيهُ، فاكتب نقدا لنيل مصر وأهلَها"..لا أعلم لماذا جاءت كلمات شاعرنا هشام الجُخ في مُخيلتي وأنا أرى ذلك المشهد العبثي، فخرجت أبياته بتلك الصورة المُزرية، لتعبر بصدق عن ذاك المشهد الأليم.
قبل قليل، وداخل احدي مؤسسات العدل في بلادنا، وقف منصور أمام تلك اللجنة واثقًا، كان قد ودع والديه صباح هذا اليوم ممنيًا نفسه بتحقيق حلم حياته، فتي تخرج من الحقوق متفوقًا، وآن له أن يخطو خطوة طالما سعى إليها، رغم شكوك والده الذي يعمل كناسًا للمدينة، دائمًا ما يذكره، يا بني لن يوافقوا بك، لن يرضوا بقاض يعمل والده عامل نظافة، لا يغرنك تفوقك وحصولك علي المراكز الأولي، فهي لا تسمن ولا تغني من جوع، يا بني مثلنا لا مكان له تحت الشمس، ستعيش ابن كناس المدينة، وستموت ميتة ابن عمال النظافة.
لم يلتفت منصور لحديث أبيه، كان يظن أنه يعيش عصرًا غير عصره، وأن أبن الريس عبدالواحد جنايني الباشا قد أنهي تلك النظرة الدونية لبسطاء المصريين، ولكنه لم يكن يدرك أنه ظن من النوع الأثيم، وأنه ما ثورة قامت في تلك المدينة الجائعة، ارتدي الفتي أبهي ما لديه، حلة بسيطة ولكنها كانت أجمل ما يمتلك، رابطة عنق أعتقد أنها مناسبة، حذاء حرص علي تلميعه بنفسه، ذهب إلي المرآة ينظر إلى هيئته، أغمض عينيه، ثم راح يتخيل نفسه يقف بها في قاعة المحكمة ينتصر للحق والعدل.
"لا أعتقد يا بُني أنك تستحق هذا المنصب".. كلمات كالرصاص انطلقت داخل قاعة المحكمة، كلمات أيقظت الفتى منصور من أحلامه، قالها والده ولم يصدقها، لماذا يرفضونه، لقد تفوق في دراسته علي الجميع، لا ينقصه أي شيء، مصري من أبوين مصريين، حصل على المركز الأول علي جامعته، فمن يصلح غيره، لم يشعر أن ما يفكر به يخرج من فمه بصوت مرتفع، إلا أن ضحكات ساخرة متقطعة من أعضاء تلك اللجنة جعلته ينتبه، لا تقلق يا بني، هناك الكثير يستحق، لكنهم ليسوا مثلك، بل أعلى شأنًا.
من يري منصور صباح هذا اليوم لا يمكن أن يصدق ما آل إليه الآن، فشتان بين فتى خرج من منزله يحدوه أمل جعله مختالًا فرحًا بنفسه، وبين فتي قتلوا حلمه حتي قبل أن يولد، دون أن ينطق كلمة التفت تاركًا تلك اللجنة الظالمة، خرج من الغرفة منكس الرأس، يبدو عليه الحزن والانكسار الذي أوصله حد البكاء، حزن أدركه من ينتظر دوره من البُسطاء الحالمين في هذا البلد التعيس، انكسار جعل البعض ينسحب من تلك المنافسة غير المتكافئة، في حين انتفخت أوداج البعض ممن ظنوا أنهم أسمي وأرقي من على هذه الأرض.
هام منصور على وجهه في شوارع المحروسة، لا يدري إلى أين يتجه، ولا إلى أين تقوده قدماه، فقط لا يرغب في العودة إلي المنزل، العودة إلي ذلك الوالد الذي رفضوه لبساطة مهنته، يؤلمه أن يشعر ذلك الأب أنه سبب هزيمته، رغم تنبؤه بما سيحدث هذا اليوم، راح الفتى يلعن سنوات عمره التي قضاها دون فائدة، راح يلعن كل لحظة حلم فيها من أجل هذا الوطن، كيف يعيش في وطن رفض الاعتراف بإنسانيته، بوطنيته، وطن يتعامل معه كمواطن من الدرجة الثانية، وطن صنف أبناءه طبقًا لدرجاتهم الاجتماعية، طبقًا لمهن آبائهم.
انطلق صوت المؤذن معلنًا موعد أذان الفجر، في تلك اللحظة وصل منصور إلى كورنيش النيل، وقف يتلفت يمينًا ويسارًا، هل هام علي وجهه طيلة هذا اليوم، من أين جاء، وكيف سار في شوارع المحروسة كل تلك الساعات دون أن يدري، إنه لا يذكر أي شيء منذ أن ترك تلك اللجنة المشئومة، إنه يخشى العودة إلي المنزل، يخشى مواجهة والديه، يخشى مواجهة نفسه، أي حياة يمكن أن يعيشها بعد اليوم وهو يعيش مواطنًا من الدرجة الثانية، أي انتماء يمكن أن يقدمه لوطن يرفض وجوده، أو حتى يفخر به.
استند منصور على سور كوبري قصر النيل متأملًا مياهه الساكنة، راح يشكو له ضعف قوته، وقلة حيلته، وهوانه علي الناس، كان يشعر باختناق، فقد سد امتلاء قلبه بالحزن حلقه، لم يعد قادرًا على احتمال رابطة عنقه، فأسرع بفكها بأيدي مرتعشة، بكي بحرقة وهو ينظر إليها، ليست تلك التي رآها صباح هذا اليوم وأُعجب بها، أمسكها بكلتا يديه، رفعها أمام وجهه ليري ما جعله يندهش، لقد صنع دون أن يقصد من رابطة عنقه حبل مشنقه، كسجين حُكم عليه بالإعدام رآه يتدلى أمام عينيه، وما يدهشه أكثر أنه لم يجزع من هذا المشهد، ولكنه شعر بسعادة غامضة.
تلك هي النهاية إذا، نهاية إنسان أراد الحياة، ولكنهم أجبروه علي اختيار الموت، لم يفكر كثيرًا، كان يخشى التراجع أكثر من خشية الموت نفسه، دون تردد راح يربط طرف رابطة العنق علي سور الجسر، ثم صعد واضعًا الحلقة التي صنعها حول عنقه، نظر إلي السماء باكيًا، قبل أن يترك جسده يتهاوى أعلي نهر النيل، لتنتهي حياته كمواطن من الدرجة الثانية، وتبدأ حياته كإنسان فقد إنسانيته حينما كان حيًا.