على أرجوحة خشبية، صنعها أبوه فى حديقة المنزل الخلفية، يستمتع أخوه وأخته، وهو يجتهد فى دفعهما، حتى تتخدّل يداه.
إنهما يقهقهان فى فرح غامر، وهو يحس سعادة رغم ألم يديه.. كم يحبهما؟
كان الصغير دون العاشرة، لكنه الأخ الأكبر، وقد تعلّم مبكرًا أن عليه أن يرعاهما، يضجر أحيانًا بالمسئولية الثقيلة، ويغضب من مقولة أبيه، حين ينازعهما لعبة مثلا: «أنت الكبير»، فيصرخ معترضًا: «يخرب بيت الكبير».
يلعب الصغيران معًا، وهو يقبع فى صمته، وتأملاته، ومجلاته، وكتبه.
يشاركهما اللعب متى احتاجاه، يدفعهما على الأرجوحة، لكن أحدًا لا يدفعه إذا أراد تجربة ذاك الصعود، والهبوط، حيث يشعر بأنه يقترب إلى السماء، فيختبر قلبه تلك الرعشة اللذيذة، إن تجربة الخوف قد تحقق متعة ما.
يرمقهما وهما يضحكان، يبتسم، لكن حزنًا ذبّاحًا يستقرُ فى شرايينه، تتمنى طفولته أن يكون فى محلهما، لكنه يئد تلك الرغبة فى أعماقه: «أنا الكبير».
اليوم... ستعطيه أمه مصروفًا مضاعفًا، لشراء العدد الجديد من «ميكى جيب»، سيجد إذن شيئًا من التسرية عن نفسه، سيلوذ بسريره، فيجلس جلسه كالقرفصاء، وما هى بالقرفصاء، ظهره إلى الجدار، والمجلة الصغيرة، بين راحتيه الصغيرتين، فيقرأ، وقد يعيد قراءة العدد مجددًا، وسيذهب بعدئذٍ إلى الحديقة الخلفية ساعة الغروب، فيتأمل أسراب العصافير، تحط على الشجرة الوحيدة بها، وسيطرد الهرة العجوز التى تأتى فى موعد لا تخطئه لاصطياد فرائسها من الطيور الرقيقة.
إنها تأتي، حين يحل الظلام، إن الليل قرين الحزن دائمًا، قرين المذابح الدموية.
ذات مرة، سقط فرخ من عش فإذا بالهرة اللئيمة، تنقض عليه، لم يستطع إنقاذه، صرخ: أمي.. أغيثى هذا المستجير، ما ذنبه؟ ما إثمه؟ ماذا جنى؟... قالت له، فيما دموعه تنهمر: «حكمة ربنا يا حبيبي» لم يقنع بالجواب المبستر، وتعلم: «قد كان درسًا قاسيًا/ مازال ملء الذاكرةْ/ المجدُ للقتلى/ ولكلِّ قُطّاعِ الطريقِ/ ولمن سيصنعُ كلَّ يومٍ مجزرة».
لعله يكره القطط حتى اليوم، إثر تلك الجريمة النكراء، يكرهها لأن الريشات الصغيرة التى تطايرت مخضبةً بالدم، قد وخزت قلبه الطري.
ليست العصافير وحدها تسترعى اهتمامه، يحب تأمل السحب أيضًا، إن خياله خصب للغاية، يراها قطعان خيول تركض حينًا، نعم... هذا رأس حصان، وتلك قوائمه، وها هو الذيل، ويراها دببة قطبية بيضاء، تنام على سرير أزرق، هل بوسعه أن يتأرجح فى السماء بما أنه محروم من أرجوحة الحديقة؟
أماه... هل ترين هذه الظلال على الجدار؟
تقول: نعم... ما بها؟.. إنها تشبه أنف خالي، «تفطس» من الضحك، فقد كان أنف أخيها كبيرًا حقًا، وتتعجب من الطفل الذى لا يكف عن مطاردة خيالاته.
حرمانه من الأرجوحة، لا يرجع فقط إلى أنه الأكبر، بل إلى أن وزنه كان زائدًا جدًا، لقد وُلد مغشيًا عليه، إثر اعتلاله بداء فى الرئة، كمركب قد ضاع منه مرفأه، وبعد محاولات الإفاقة التى نجحت ربما بفعل دعوات الأم التى تناست آلام المخاض، فانخلع قلبها، خوفًا من أن تشيعه قبل أن تضمه إلى حضنها.
قيل وقتها: «هو ابن موت»، لن يحيا طويلًا، حتى تتأهب أم تجمعت كل جينات الحنان فى خلاياها إلى فراقه الحتمي، وقيل: إن يحيا طويلًا فتلك معجزة، لكنها رفضت نذير الشؤم، وردت: سيعيش.
مرضه المبكر دفعها إلى تغذيته تغذية خاصة، تحكى له: «كنت ما إن تجاوزت الثمانية أشهر، أطحن لك صدور الحمام والأرز والملوخية فى الخلّاط، فأضع الملعقة فى فيك الصغير، فتزدرد الطعام، وتفغر فاك مجددًا لتناول الجرعة الثانية»، ثم تضحك: «إننى أعجب من أنك الآن لا تحب الملوخية».
يتساءل: هل كانت حياته تستحق ذاك التعب؟ ألم يكن الأحرى بها أن تستسلم لواقع أنه ابن موت؟
التغذية الخاصة جدًا، تسببت فى زيادة الخلايا الدهنية فى جسمه، ما أشقاه فيما بعد، حيث عاش ملتزمًا بحمية غذائية مستمرة، فأصبح على إثرها «نفسه مسدودة» دائمًا، إنه لا يأكل حتى يعيش، كما يقال، بل يأكل مصادفةً!.
لكن الطفل، الصغير، الكبير، ذا العاشرة، الصامت، القارئ، المتأمل، تراوده أحلامه، كم يشتاق إلى أن يجرب الأرجوحة.
لقد تأرجح أخوه وأخته نحو ساعتين، ولقد دفعهما حتى كلت يداه، وها هما يشبعان من اللعبة، فينصرفان عنها إلى شأن آخر، وهو يتأمل الأرجوحة، مبتسمًا متحمسًا: لماذا لا يسأل أباه أن يدفعه نحو دقيقتين؟ أليس الكبير للصغير؟.
إن أباه عاد من غربته ليقضى شهرًا إجازة، قبل أن تأخذه الطائرة مجددًا، إلى بلاد بعيدة، فلا يتواصل معه إلا بخطابات يكتبها، فيما دموعه تتحدر على خديه المكتنزين: «بابا... ممكن»، يباغته برد عصبى من دون سبب: «مالك عاوز إيه؟».. «ولا حاجة يا بابا».
يسحب الصغير رجليه ثقيلتين، إلى غرفة نائية فى الحديقة، تُربى فيها أمه أسراب الحمام، الوقت كان مغربًا، إن الغروب بطبعه حزين، ينساب هديل الحمام بما فيه من شجن إلى مسامعه، فتسّاقط دموعه، وما هى إلا ثوانٍ، حتى كان بكاؤه قد أصبح نشيجًا.
يبحث عنه أبوه، فيراه، فيحزن: «تعالَ حتى تتأرجح».. يجيب: «لا.. كنت أريد فقط أن أشترى مجلة ميكى».